عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-26-2013, 07:31 PM
هيفولا هيفولا غير متواجد حالياً
Super Moderator
 
تاريخ التسجيل: May 2010
المشاركات: 7,422
افتراضي مذكرات بسيطة

اييييييه ..
كانت مشاهد الآخرة تتجسد أمامي كل لحظة و في كل موقف

حتى بعد أن أدّينا العمرة و دخلنا المخيم في مِنى
دخلناه أخوات متماسكات!
أيدينا بأيدي بعضنا..

فسألت الله أن ندخل الجنة كذلك ..
إخوانا متحابين متماسكين..


دخلناها خيامنا و يا ألله ..
ما أحلى تلك الخيام .. كنا ننام متقابلين ..
و تلك الآية تراودني كل ليلة: (على سرر متقابلين)


و رغم الضيق الذي كنا نجده و رغم زحام حقائبنا و فرشنا
إلا أننا كنا نحلق في نعيم فتذكرت
(و نزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين)



مرت بنا ليال جميلة قضيناها معا لحظة بلحظة ..
حتى النوم لم يكن كافيا لنا لأن الدروس تبدأ فتوقظ كل نائمة
و إن كانت لتوها أغمضت ..
يالذلك الحبور الذي كان يلثمنا في رقة متناهية .
.كيف يطير النوم من أعيننا رغم أننا لم نذق منه سوى ساعة أو ساعتين..

كيف نقوم بنشاط و قوة !
أكان للذكر دور في تقويتنا !


تذكرت فاطمة رضي الله عنها حين اشتكت للرسول
فأرشدها للذكر و علّق ابن القيم رحمه الله قائلا :


" إن الذكر يعطي الذاكر قوة
حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه"




و هذا ما وجدناه و لله الحمد و المنة ..
و مرت بنا الصباحات المشرقة التي يكون أول لحظة فيها
هي دخول شيختنا لتوقظ كل واحدة منا ..
تهز قدمها و هي تناديها باسمها: فلانة ، الفجر ..

فنتقافز حولها كلنا بفرح ..
بنفس النشاط الذي عهدتنا عليه
و بنفس الفرح الذي ينطق في وجوهنا دائما ..

و يمضي بنا اليوم رائعا فيه السكينة
و الطمأنينة و السعادة


و كان المبيت بِمنى له رونق خاص ..

تشعر في تلك الخيام أنك تركت الناس كلهم
أهلك و أولادك و أصحابك
تعتزلهم كلهم إلى ربك
تهاجر إليه بقلبك و بدنك
تنام في مكان ليس مكانك
تتحمل تغير المكان و الأكل و النوم من أجل الوفادة عليه..
و كنت في كل ليلة حين آوي إلى فراشي الصغير ..
الذي لا أكاد أتقلب فيه من ضيقه أتذكر القبر
و ضيقه ثم أتذكر الجنة و فسحتها و أنام بين الخوف و الرجاء..




و زاد أن كان مكان فراشي تحت لوحة
فيها آية كانت تهزني كلما أتيت لمكاني

لوحة كُتِب فيها : "و من أحسن قولا ممن دعا إلى الله و عمل صالحا "

كانت هذه الآية توقظ فيني كل إحساس


شعرت أن الكاتب الذي يحسن القول لابد أن يحسن العمل أيضا ..
و ظلت هذه الآية ترافقني طيلة مكثي هناك..




مرت أيام الحج و كان كل شيء في رحلة الحج يُذكر بالآخرة .
و لكن كانت هناك مواقف فرضت مشاعرها بقوة
و هيمنت حتى حركت قلبا غافلا ..

كنا نقف وقوفا طويلا أمام القطار ..
و كان الوقوف الشاق يذكرني بالوقوف بين يدي الله سبحانه و تعالى ..
و كنت أردد بيني

و بين أنفاسي المتعبة: رباه لا تطل وقوفنا بين يديك?
كنت أقولها و اللسان يواطئ القلب
إذ ذقت شيئا يسيرا من الوقوف في الدنيا
فكيف سيكون الوقوف هناك!



و لا أنسى ذلك اليوم الذي خرجنا فيه من مزدلفة
وقت شروق الشمس إلى الجمرات ..

كانت الجمرات بعيدة عنا و كنا نمشي إليها تحت الشمس
و كان العطش قد بلغ منا مبلغه
و التعب بعد يوم عرفة و مزدلفة قد أوهننا و أضعفنا ..
مشينا كلنا إلى الجمرات .. و الشمس كأنها تدنو منا ..
رأيت العرق يتصفد على الجباه ..

و الأنفاس لاهثة متقطعة و الخطى تبطأ في المسير ..
قد أتعبنا طول السير ..
كنت ألتفت فأرى من معه مظلة تظله عن الشمس و بعضهم لا ظل له..
و ألتفت فأجد من بيده ماء و بعضهم لا ماء معه ..
و ألتفت فأجد من هو مبتسم راض و من هو مكفهر حزين .. ياااااه ..
و يوما سنقف كلنا ..ستدنو الشمس من الخلائق فـ منّا من يظله الله
و منّا من لا ظل له ..!
يوما سنعطش فـ منّا من يرد الحوض

و منّا من يُذاد عنه .. !
يوما ستضحك وجوه و ستسود
و تسوء وجوه ..!
سبحان الله .. و كأن من يؤدي فريضة الحج
هو في رحلة مبسطة إلى الآخرة ..
علّه يتعظ .. علّه يستيقظ ..

و من لم يردعه الحج و هيبته فكيف سيرتدع!
حتى في الخيام.. منّا من هو في خيام مترفة
و منّا من هو دون ذلك و كذلك الجنة نسأل الله خيام الفردوس فيها

مرت أيام الحج و في كل التفاصيل ذكرى لنا و موعظة
حتى أتى اليوم الأخير الذي أعطانا أقوى درس و أبلغ موعظة
إذ كنّا من المتأخرين لا المتعجلين

و ما أجمل أن نتأخر لأن الله جعل المتقدمين استثناء
فقال: (و من تعجل في يومين)
و كأن الله يريد منا أن يكون الأصل التأخر و لذلك حكمة بالغة !

قال تعالى ( و من تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى)
نعم
رأينا بأعيننا كيف فرغت المخيمات في لحظة!
رأينا أمتعة الرحيل التي استُغني عنها ..
رأينا الركام بعد الراحلين ..
رأينا أروقة فارغة و زهرة فانية ذابلة ..
يااااه هكذا هي الدنيا .. سنرحل عنها يوما ..
و نترك المتاع و لا نأخذ معنا إلا ما صلح من متاعنا ..
يوما ستكون الدنيا قاعا صفصفا ..
و هذه الجبال التي كنا نمر بها كل يوم في سيرنا للجمرات
سينسفها ربي نسفا ..
ليت شعري من منّا يعود من الحج و هو لم يتعظ!

من منّا يعود بنفس المشاعر و بنفس الإيمان!
و يأتي اليوم الأخير و اللحظة الأخيرة!
ذهبنا لطواف الوداع الذي هو واجب على كل حاج
و كنت أتسائل عن سر وجوبه !

حتى أنه لا يسقط عمن حُبس و لا يجبره دم و فدية!
فوجدت و أنا أودعه أني أملأ عيني منه !
و كأن الله يريدنا أن نخرج من الحرم
و آخر ما رأيناه كعبته الشريفة ..
و كأن الوداع الذي هو آخر العهد في البيت يشد علينا
أن نكون على اتصال دائم بربنا ..

و ذهبنا قافلين إلى أهلينا ..
و حين رأيت الأهل و الأولاد و الأحباب
بعد أن عدت سالمة إليهم و جمعني الله بهم
بعد فرقة تذكرت ذلك الوعد الرباني :

(والذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم)
يالعظم الفضل و المن و الجود و الكرم ..
انتهت رحلة الحج كما بدأت
و ما انتهت تلك المشاعر التي عشناها
و كم نسأل الله أن يحيي قلوبنا كما أحياها في أيام خلت
و أن يُعرض بنا عن دنيا الفناء
إلى دنيا البقاء و اللقاء السرمدي في خيام الجنان..

هي مذكرات بسيطة كتبتها علي حين أقرأها بين الفينة و الفينة
توقظني من عظيم السبات و طول الأمل..



أمل الشقير

حج عام ١٤٣٤هـ

رد مع اقتباس