إدارة بيت عطاء الخير
درس اليوم
[ظواهر النصوص مفهومة لدى المخاطبين]
كلام الله وكلام رسوله عربي مبين، وظاهره غاية في البيان، وهو مفهوم
لدى المخاطبين من أهل اللسان العربي، ولاسيما ما يتعلق من ذلك بأصول
الدين والإيمان، والتي كثر فيها خوض المتأخرين واختلافهم....،
ومن المعلوم أن القرآن عربي، وأنزل على رسول عربي، وخوطبت به
- أول الأمر- أمة عربية، وأن القرآن مقصود به الهداية والإرشاد، فلزم
أن يكون بينا للأمة المخاطبة به، ولا يكون كذلك حتى تفهمه وتعقله،
ولا يتم ذلك حتى يكون جاريا على معهودها في الخطاب،
وعادتها في الكلام، وهكذا كان القرآن الكريم.
وقد كانت سنة الله في خلقه أن يرسل كل رسول بلسان قومه حتى يحصل
المقصود من الرسالة، فيكون الرسول مبينا في كلامه وبلاغه، ويكون
المخاطب قادرا على الفهم، متمكنا من الإدراك، وبهذا تقوم الحجة وتنقطع
المعذرة: بالبيان من الرسول والفهم من المرسل إليه، ولهذا قال موسى
- في تعليل سؤاله الله أن يرسل معه أخاه هارون وزيرا -:
} وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ
مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ {
فلو أن الله تعالى خاطب أمة بغير لسانها، لما فهمت خطابه لها، ومن ثم
لم تقم الحجة عليها بذلك الخطاب،
}مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ
عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ
حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً {
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالى:
.. كان معلوما أنه غير جائز أن يخاطب الله جل ذكره أحدا من خلقه
إلا بما يفهمه المخاطب، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولا برسالة
إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه، لأن المخاطب المرسل إليه
إن لم يفهم ما خوطب به وأنزل إليه، فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء
الرسالة وبعده سواء، إذا لم يفده الخطاب والرسالة شيئا
فمعاني كتاب الله تعالى موافقة لمعاني كلام العرب، كما أن ألفاظه موافقة
لألفاظها، ولهذا كان لا يمكن لأحد أن يفهم كلام الله ورسوله إلا من هذه
الجهة، جهة كونه عربيا: في ألفاظه وتراكيب تلك الألفاظ، عربيا
فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها: أصولا وفروعا، أمران: أحدهما:
أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا، أو كالعربي في كونه
عارفا بلسان العرب، بالغا فيه مبالغ العرب، أو مبالغ الأئمة المتقدمين
كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم، وليس المراد
أن يكون حافظا كحفظهم، وجامعا كجمعهم، وإنما المراد أن يصير
فلابد في فهم معاني نصوص الكتاب والسنة من مراعاة معهود العرب
في خطابها، فلا يصح العدول عن عرفها في كلامها، كما لا يصح أن يفهم
كلام الله ورسوله على نحو لا تعرفه العرب من لغتها وأسلوبها .
وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بعض معهود العرب في خطابها،
وأنها تخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا تريد به العام الظاهر، ومثاله
} يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى {
فهذا يعم جميع الناس .وتخاطب بالشيء عاما ظاهرا تريد به العام
ويدخله الخصوص، ومثاله من القرآن الكريم:
} وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا
مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ
وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا {
فكل أهل القرية لم يكن ظالما، وإنما كان فيهم المسلم، لكنهم كانوا
مغلوبين على أمرهم .وتخاطب بالشيء عاما ظاهرا تريد به الخاص،
} وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ {
ودل القرآن على أن وقودها إنما هو بعض الناس، لا كلهم،
}إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ {
وتخاطب بالشيء ظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره،
} واَسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ {
والمراد: أهل القرية، وأهل العير .
وكل هذا موجود العلم به في أول الكلام أو وسطه أو آخره،
ثم قال الشافعي رحمه الله – بعد أن ذكر بعض تصرفات العرب في لسانها
وفطرته في الكلام والبيان – قال:
فمن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة، فتكلف
القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته
معرفته: كانت موافقته للصواب – إن وافقه من حيث لا يعرفه – غير
محمودة، والله أعلم، وكان بخطئه غير معذور
وذلك لأنه أتى البيت من غير بابه،
ورام الوصول إلى الغاية من غير طريقها،
ولهذا قال الحسن رحمه الله:
أهلكتهم العجمة؛ يتأولونه – أي القرآن - على غير تأويله.
والمقصود هنا بيان أن نصوص القرآن والسنة عربية في ألفاظها
وأساليبها، ولا يفهمها إلا من كان عربيا في لسانه وفهمه، وكلما كان
علمه بلسان العرب وأساليبها في الكلام أعمق كان فهمه للكتاب والسنة أرسخ.