{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }
من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الله تعالى، ذكر فيه حرف النداء
(يا)، ومعروف أن (يا)، لنداء البعيد، فهل معنى البُعد
ملحوظ في نداء النبي لربه ؟؟
ونجد آيات أخرى، حُذف منها حرف النداء (يا)
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً }
قبل البحث في السبب لا بد أن نقرر أولاً أنه لا يُذكر حرف في كتاب
الله تبارك وتعالى أو يحذف إلا لغرض معنوي، ذكر البلاغيون هذه
الأغراض في مبحث (الحذف والذكر)، وهو من مباحث
(علم المعاني)، أحدِ أقسام البلاغة الثلاثة.
فما هو معنى (يا)، لنعرف سبب حذفه أو ذكره ؟
قال ابن هشام في (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب):
"(يا) حرف موضوع لنداء البعيد حقيقة،أو حكماً، وقد يُنادى بها القريب
توكيداً، وقيل: هي مشتركة بين القريب والبعيد،وهي أكثر أحرف النداء
استعمالاً؛ ولهذا، لا يقدّر عند الحذف سواها، نحو:
{ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا }
ولا ينادى اسم الله عز وجل، والاسم المستغاث،وأيها وأيتها إلا بها".
إذن .. حين ينادى البعيد بـ(يا)، فهي على بابها، أما إذا نودي بها قريب
هذا يكون من باب إنزال القريب منزلة البعيد، وذلك لأسباب
ذكرها فضيلة الدكتور فضل عباس في كتابه
(البلاغة فنونها وأفنانها، علم المعاني)،
1. للدلالة على أن المنادى رفيع القدر، عظيم الشأن.
2. للإشارة إلى أنه وضيع منحط الدرجة.
3. للإشعار بأن السامع غافل لاهٍ.
وهناك أغراض تخرج إليها صيغ النداء ـ أدوات نداء القريب
والبعيد ، وتفهم من السياق، مثل:
التحسر والتوجع، الندبة، الزجر والملامة. (انتهى باختصار).
نسأل الآن لماذا ذكر حرف النداء (يا) في الآيات الكريمة،
وحذف من بعضها؟ أو ما هي الأغراض البيانية
وراء حذف هذا الحرف وذكره؟
فلنبحث في بعض الآيات التي ورد فيها حرف النداء هذا، لنرى ما تعليل
العلماء...من الآيات التي ذكر فيها حرف النداء،
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ }
"خطاب لمشركي مكة، و(يا) حرف نداء، وضع في أصله لنداء البعيد،
صوت يهتف به الرجل من يناديه، وأما نداء القريب فله (أي) والهمزة.
ثم استُعمل ـ يقصد (يا) ـ في مناداة من سها وغفل، وإن قرُب؛ تنزيلاً له
منزلة من بعُد، فإذا نودي به القريب المفاطن، فذلك للتأكيد المؤذن بأن
الخطاب الذي يتلوه معنيّ به جداً.فإن قلتَ: فما بال الداعي يقول: يا رب،
ويا الله، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وأسمع به وأبصر؟ قلتُ: هو
استقصار منه، واستبعاد لها من مظانّ الزلفى، وما يقربها إلى رضوان
الله ومنازل المقربين، هضماً لنفسه، وإقراراً عليها بالتفريط في جنب الله،
مع فرط التهالك على استجابة دعوته، والإذن لندائه وابتهاله". (انتهى)
ومن الآيات التي ذكرت فيها أداة نداء البعيد،
{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }
"{يا رب} أيها المحسن إليّ بأنواع الإحسان الذي أعظمه الرسالة،
وعبر بأداة البعد هضماً لنفسه مبالغة في التضرع".
ولحظ البقاعي معنى قرب العبد من ربه، الذي أومأ به
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً }
"ولما ذَكَرَ أمر البيت الشريف فيما تكفل به سبحانه، وفيما أمر به الخليل
وولده عليهما السلام من تطهيره، ذكّر باهتمامه بأهله ودعائه لهم
فقال: {وإذ قال إبراهيم رب}، فأسقط أداة البعد إنباء بقربه
ويذكر الفخر الرازي المعنى نفسه،
في آخر آية من سورة البقرة، حيث حذف حرف النداء:
{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً
كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِه }
"النداء إنما يُحتاج إليه عند البعد، أما عند القرب فلا، وإنما حذف النداء؛
إشعاراً بأن العبد إذا واظب على التضرع نال القرب من الله تعالى،
وهذا سر عظيم يطلع منه على أسرار أُخر".
وأشار الزمخشري إلى معنى الملاطفة
الذي أوحى به حذف حرف النداء في قوله تعالى:
{ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا }
"حذف منه حرف النداء؛ لأنه منادى قريب مفاطن للحديث،
وفيه تقريب له وتلطيف لمحله".
وهكذا كل حرف في كتاب الله يُذكر أو يُحذف إنما يكون لإفادة معنى،
وتأدية غرض، وحاشا لكلام الله أن يكون فيه حرف واحد زائد