فأوصيكُم ـ أيّها النّاس ـ و نفسِي بتقوَى الله عزّ و جلّ ، فاتقوا اللهَ رحمكم الله ،
و اغتنِموا مواسمَ الأرباحِ فقد فُتِحت أسواقها ،
و داوموا قرعَ أبواب التوبة قبل أن يحينَ إغلاقها .
الغَفلةُ تمنَعُ الرِّبحَ ، و المعصيةُ تقودُ إلى الخُسران .
الواقفُ بغير بابِ الله عظيمٌ هوانُه ، و المؤمِّل غيرَ فضلِ الله خائبةٌ آماله ،
و العامِل لغير الله ضائعةٌ أعمالُه . الأسباب كلُّها منقطِعة إلا أسبابه ،
و الأبوابُ كلّها مغلَقة إلا أبوابُه .
النّعيمُ في التلذُّذ بمناجَاةِ الله ، و الرّاحة في التّعَب في خدمةِ الله ،
و الغِنى في تصحيحِ الافتقارِ إلى الله .
أيّها المسلمون ، الأيّام تمرُّ عجلَى ، و السّنون تنقضِي سِراعًا ،
و كثيرٌ من الناسِ في غَمرةٍ ساهون و عن التّذكِرة معرِضون ،
و في التنزيل العزيز :
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا 
[الفرقان:62].
و لما كان العُمر ـ يا عبادَ الله ـ محدودًا و أيّامُ العَبدِ في هذه الدّنيا معدودَة
فقد امتنَّ الله على عبادِه بمواسمِ الخيرات و مِنَح النّفَحات ،
و أكرَمَ بأيّامٍ و ليالٍ خصَّها بمزيدٍ منَ الشَّرَف و الفَضلِ وعَظيمِ الثّوابِ و مُضَاعَفة الأجرِ ،
و جعَل فيها بمنِّه و كرَمِه ما يُعوِّض فيهِ الموفَّق قِصَرَ حياتِه و تقصيرَ أعماله .
و إنّ أيّامَكم هذه من أفضلِ الأيّام ، و هذه العَشرُ الأخيرةُ هي الأفضَلُ و الأكرَم .
أيّها المسلمون ، ما أحوجَ العبدَ إلى موقفِ المحاسبة في هذه الأيّام الفاضلة ،
إنها مناسَبَة مناسِبَة من أجل التّغيير و التصحيح و الإصلاحِ في حياة الفرد
و في حياةِ الأمة ، يقول رسول الله صلّى الله عليه و على آلِه و صحبه و سلّم :
(( إذا دخل رمضانُ فتِّحت أبواب الجنّة و غُلِّقت أبوابُ النار و سُلسِلت الشياطين ))
أخرجه الترمذي ،
و في روايةٍ أخرى :
(( إذا كانَ أوّل ليلة من رمضانَ صُفِّدت الشياطين و مردَةُ الجنّ ،
و فُتِّحت أبواب الجنة فلم يغلَق منها باب ، و غلِّقت أبواب النار فلم يُفتَح منها باب ،
و ينادي منادٍ : يا باغيَ الخير أقبل ، و يا باغيَ الشرِّ أقصر ،
و لله عتقاءُ من النّار ، و ذلك كلَّ ليلة )) .
إنها فرصة للمحاسبة و فرصةٌ للإصلاح و فرصة للتغيير ،
(( يا باغيَ الخير أقبِل ، و يا باغيَ الشرّ أقصر )) .
معاشرَ المسلمين ، و من أجلِ مزيدٍ منَ التأمُّل و استشعارٍ جادٍّ للمحاسَبَة
و إدراكٍ عميق لهذه الفرصَة السانحة هل تأمَّلتم في دعاءٍ يردِّده المسلمون
في هذا الشهرِ الكريم ، و بخاصّةٍ في مثل هذه الأيام حين تبدأ أيّام الشهر
في الانقضاءِ و هِلاله بالأفول ، و يستشعرون فِراقَه و يعيشون ساعاتِ الوداع
و مشاعِر الفِراق ، دعاءٌ يصاحبه دفقٌ شعوريّ مؤثِّر من القلوبِ الحيَّة
و النفوسِ المحلِّقَةِ نحوَ السموّ بشعورٍ إيمانيّ فيّاض ،
يرفَعون أيديَهم مُناشدين ربَّهم و مولاهم :
" اللهمَّ اجعله شاهدًا لنا ، لا شاهدًا علينا " .
هل تأمَّلتم هذا الدعاءَ ؟!
و هل فحَصتم مضامينَه و عواقبَه و حقيقتَه و نتيجتَه ؟!
أيّها الصائمون ، إنّ شهادةَ شهرِ رمضان غيرُ مجروحةٍ ، إنّه موسم يتكرّر كلَّ عامٍ ،
يشهد على الأفرادِ ، و يشهَد على الأمة ، إنّه يشهَد حالَكم ،
فهل سيشهَد لنا أو يشهَد علينا ؟!
يرقب حالَنا ؛ هل سوف يزدرِينا أو سوفَ يغبِطنا ؟!
ماذا في استقبالنا له ؟! و ماذا في تفريطنا فيه ، بل في كلّ أيّام العام و العُمر ؟
هل نجتهد فيه ثم نضيِّع في سائرِ أيّام العام ؟!
عبادَ الله ، الأيّام تشهَد ، و الجوارِح تشهد ، و الزّمان يشهد ، و المكان يشهَد ،
إنّ تأمُّلَنا في شهادة هذا الشهر الكريم لنا أو علينا فرصَة عظيمةٌ صادقة جادّة
في المحاسبة و مناسبةٌ حقيقيّة نحو التغيير و التعويض ،
(( يا باغيَ الخير أقبل ، و يا باغيَ الشرّ أقصر )) .
و قد يكون لشهادةِ رمضان المعظَّم نوعٌ من التميُّز و لونٌ من الخصوصيّة ،
لماذا ؟
لأنَّ شهرَ رمضانَ هو شهر الصّبر ، شهر مقاومة الهوى و ضبطِ الإرادة
و مقاومَة نزوات النفس و نوازعها .
شهر رمضان ـ معاشرَ الصائمين ـ ميدانُ التفاوت بين النفوسِ الكبيرة و النفوسِ الصغيرة ،
بين الهِمَم العالية و الهِمَم الضعيفة .
هذا الشهرُ الشاهد فرصةٌ حقيقيّة لاختبار الوازِع الداخليّ عند المسلم ،
الوازع و الضمير هو مِحوَر التربية الناجحة .
و من أجل مزيد من التأمُّل و النظَر و الفحص في هذه الشهادةِ الرمضانية فلتنظُروا
في بعض خصائصِ الصّيام و أحوال الصائمين . الصّوم سرٌّ بين العبدِ و ربِّه ،
و قد اختصَّه الله لنفسِه في قوله سبحانَه في الحديث القدسي :
(( الصّوم لي و أنا أجزِي به ، يدَع طعامَه و شرابه و شهوتَه من أجلي )) .
أيّها الإخوة في الله ، الصومُ عن المفطّرات الظاهِرَة يسيرٌ غير عسير لكثيرٍ من الناس ،
يقول ابن القيم يرحمه الله :
" و العبادُ قد يطَّلعون من الصائمِ على تركِ المفطرات الظاهرةِ ،
و أما كونه ترك طعامَه و شرابه و شهوتَه من أجل معبودِه فهو أمر لا يطّلع عليه بشَر ،
و تلك حقيقة الصوم " .
و اقرِنوا ذلك ـ يرحمكم الله ـ بقوله
: (( من صامَ رمضانَ إيمانًا و احتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه ،
و من قام رمضانَ إيمانًا و احتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه ،
و من قام ليلة القدرِ إيمانًا و احتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه )) .
مَن ـ تُرى ـ يحقِّق الإيمانَ و الاحتساب على وجهه يا عباد الله ؟!
(( يا باغي الخير أقبل ، و يا باغي الشر أقصر )) .
تأمّلوا أحوالَ بعض الصائمين مع الطعامِ و فضول الطعام ،
يسرِفون على أنفسِهم في مطاعمهم ومشاربهم ونفقاتهم،
يتجاوَزون حدَّ الاعتدال و الوسَط ، ساعدهم في ذلك إعلامٌ هَزيل قد جعَل مساحاتٍ
هائلةً للأكل و الموائد مع ممارساتٍ غير سويّة من التجارِ و المستهلكين .
و تأمّلوا ـ حفظكم الله ـ و أنتم في رحابِ هذا الشهرِ الشّاهد ،
تأمّلوا أحوالَ بعض الغافِلين الذين يضيِّعون هذه الأوقاتَ الفاضلةَ و الليالي الشريفة
مع اللهوِ و البطّالين فيما لا ينفَع ، بل إنّ بعضها فيما يضرّ و يُهلك و يفسِد الدّينَ
من الغيبة و النميمةِ و المسالك المحرَّمة ، انقلبت عليهم حياتهم ليجعَلوا نهارَهم نومًا
و ليلَهم نهارًا في غير طاعةٍ و لا فائدة ، لا لأنفسِهم و لا لأمّتهم ، تجمّعاتٌ ليليَّة ،
إمّا تضييع للواجباتِ و المسؤوليات ، و إمّا وقوع في المنهيّات و المهلكات ،
يعينهم في ذلك قنواتٌ و فضائيّات في مسلسلاتٍ هابطة و برامجَ للتسلية هزيلة .
بل إنَّ التأمّلَ في فضول الكلام ـ أيّها الصائمون ـ لا ينقضي منه العجَب ،
حتى في أحوالِ بعض الصالحين و المتعبِّدين ممن ينتسِب للعلم و الدّين و الدعوة ،
فلا يكاد الغافِل منهم يُفكِّر في فضولِ الكلام فضلاً عن أن يفكِّر في تجنُّبِه ،
و لكثرةِ كلامهم فقَدوا السَّمتَ و قلَّت عندهم الحِكمة و خلَطوا الجدَّ بالهزل ،
ناهيكم في الوقوعِ في داء الغيبةِ و النميمة و الكذِب و الرياء و السمعة .
معاشرَ المسلمين ، هذه إشاراتٌ و وقَفَات لما قد تكون عليه هذه الشهادات
في أحوالِ بعض الصائمين و المتعبِّدين ،
(( يا باغيَ الخير أقبل ، و يا باغيَ الشر أقصر )) .
أيّها المسلمون ، هل ندرِك و نحن نتأمَّل هذه الشهاداتِ الرمضانية أننا أصبَحنا
في أمسِّ الحاجة إلى التغيير و أننا لا نزال يملؤُنا التفاؤُل بغدٍ أفضَل و واقع أمثَل .
إنَّ وسائلَ العلاج و أدواتِ النجاح ليست عنّا ببعيد ، فنحن أمّةُ القرآن و أمّة محمّد
، أمّة هذا الشهر الكريم الشاهدِ ، و نحن الأمّةُ الشاهدة .
منهجُ التغيير و الإصلاحِ يتمثَّل في هذه الآيَة الكريمة الجامعة :