فجيء به جمعاً لأنه اسم، فهو ليس نصاً في إفادة العموم لاحتمال توهم
بصر مخصوص فكان الجمع أدل على قصد العموم وأنفى لاحتمال العهد
{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }
لأن المراد الواحد لكل مخاطب بقوله:
{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم }
والمراد بالقلوب العقول التي بها إدراك المعقولات.والسمع مصدر دالّ
على النوع فكان في قوة الجمع، فعمّ بإضافته إلى ضمير المخاطبين
ولا حاجة إلى جمعه.والأبصار جمع بصر، وهو في اللغة العين على
التحقيق. وقيل: يطلق البصر على حاسّة الإبصار ولذلك جمع ليعمّ
بالإضافة جميع أبصار المخاطبين، ولعلّ إفراد السمع وجمْع الأبصار جرى
على ما يقتضيه تمام الفصاحة من خفَّة أحد اللفظين مُفْرداً والآخر مجموعاً
عند اقترانهما، فإنّ في انتظام الحروف والحركات والسكنات في تنقُّل
اللسان سِرّاً عجيباً من فصاحة كلام القرآن المعبّر عنها بالنَّظم.
وكذلك نرى مواقعها في القرآن قال تعالى:
{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً
فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ }
والقلوب مراد بها العقول في كلام العرب لأنّ القلب سبب إمداد العقل بقوّة
الإدراك. خواطر الشعراوي ارجع للاية (يونس 31)
وحين نظر العلماء في معاني الألفاظ قالوا:
" النظائر حين تخالف فلا بد من علّة للمخالفة " فالسمع آلة إدراك،
والبصر آلة إدراك، فلماذا قال الحق سبحانه في آلة الإدراك " السمع "
وقال في الآلة الثانية " الإبصار "؟، ولماذا جاء السمع بالإفراد، وجاء
الإبصار بالجمع، ولم يأتْ بالاثنين على وتيرة واحدة؟
إن المتكلم هو الله تعالى، وكل كلمة منه لها حكمة وموضوعة بميزان،
وأنت، حين تسمع،تسمع أي صوت قادم من أي مكان، لكنك بالعين ترى
من جهة واحدة، فإنْ أردتَ أن ترى ما على يمينك فأنت تتجه بعينيك إلى
اليمين، وإنْ أردت أن ترى ما خلفك، فأنت تغيِّر من وقفتك، فالأذن تسمع
بدون عمل منك، لكن البصر يحتاج إلى عمليات متعددة؛ لترى ما تريد.
وأيضاً فالسمع لا اختيار لك فيه، فأنت لا تستطيع أن تحجب أذنك عن
سماع شيء،أما الإبصار فأنت تتحكم فيه بالحركة أو بإغلاق العين.
وجاء الحق سبحانه وتعالى بالسمع أولاً؛ لأن الأذن هي أول وسيلة إدراك
تؤدي مهمتها في الإنسان، أما العين فلا تبدأ في أداء مهمتها إلا من بعد
ثلاثة أيام إلى عشرة أيام غالباً.
{ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَارَ }
والحق سبحانه يملكها؛ لأنه خالقها وهو القادر على أن يصونها، وهو
القادر سبحانه على أن يُعَطِّلها، وقد أعطانا الحق مثالاً لهذا في القرآن
{ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً }
فَعَطَّل الله سبحانه أسماعهم بأن ضرب على آذانهم، فذهبوا في نوم استمر
ثلاثة قرون من الزمن وازدادوا تسعاً. كيف حدث هذا؟.. إن أقصى ما ينامه
الإنسان العادي هو يوم وليلة، ولذلك عندما بعثهم الله
{ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }
ولكن هيئتهم لم تكن تدل على هذا، فإن شعورهم قد طالت جدّاً، بل إن
لونها الأسود قد تبدلوأصبحوا شيباً وكهولاً،
{ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً }
ونلحظ هنا ملحظاً يجب الانتباه إليه،
ففي هذه الآية الكريمة يقول الحق سبحانه:
{ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَارَ }
بينما يقول في آية أخرى في سورة السجدة:
{ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ }
ولا بد أن ننتبه إلى الفارق بين " الخَلْق " و " الجَعْل " ، و " الملْك " ،
فالخلق قد عرفنا أمره،وملكية كل شيء لله ـ تعالى ـ أمر مُلْزِمٌ في العقيدة،
ومعروف، أما " الجَعْل " ، فهو توجيه ما خلق إلى مهمته فأنت تجعل
الطين إبريقاً، والقماش جلباباً، هذا على المستوى البشري، أما الحق
سبحانه وتعالى فقد خلق المادة أولاً، ثم جعل من المادة سمعاً وبصراً،
فمن خَلَق هو الله تعالى، ومن جَعَلَ هو الله تعالى،
ومن مَلَكَ هو الله تعالى.
معلومة بيانية جميلـــــــــــة:
لأن السمع غلب عليه المصدرية (أي حقيقة عملية السمع التي تتم في
مركز السمع في المخ) فأفرد ، وهو إدراك لمؤثر واحد وهو الاهتزازات
الصوتية . واللائق بالأبصار هو الجمع ، لأن عملية الإبصار تتم عن
طريق الإدراك لآثار الألوان المختلفة على مركز الإبصار .
دخل على مجلسنا شاب جليل القدر قريب المكانة وشاركنا في مطعمنا
ومشربنا ونحن متبذّلون متبسّطون وفاتحنا بمسألة دقيقة طالباّ تفجير
عيونها وإشاحة كظائمها :ما الحكمة من إفراد السمع وجمع الأبصار
في آيات من كتاب الله ..؟قال الشيخ : تلك مسألة نفيسة تكلم فيها
السابقون اللاحقون وتنافسوا في تحريرها على وجوه كثيرة منها :
إن السمع يُدرَك به من جهات كثيرة وفي الظلمة والنور فإذا توحدت جهة
إدراكها توحّد لفظ هذه الجهة ؛وأما البصر فلا يُرى به إلا جهة واحدة تلك
التي تقابلك فلذلك احتيج إلى الجمع والتعداد فيه لإظهار جميع جهات البصر .
قال عثمان : وهناك وجه لغوي جليل وهو أن السمع مصدر سُمّي به فأفاد
النوع (نوع السمع) الموجود في جميع حواس الناس والنوع فيه عموم ؛
وأما الأبصار فهي جمع بصر وهو اسم لا يفيد العموم لاحتمال توهّم بصر
مخصوص حين إفراده فكان الجمع أدل على معنى العموم فيه .
قال الشيخ : ولِمَ الإفراد إذن في قوله تعالى:
{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }
أيا عثمانُ !؟قال عثمان : الخطاب هنا لكل أحد من أجل تحديد المسؤولية
فوقع على كل أحد مخاطَبٍ بعينه فكل آلة سمع لأحد وكل آلة بصر له تحت
طائلة المسؤولية الفردية المباشرة .