يقول ابن قيم الجوزية في ذلك :
[ أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين
أرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به
ولا ليعذبه به ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره
ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله وليراه طريحًا ببابه
لائذًا بجنابه مكسور القلب بين يديه رافعًا قصص الشكوى إليه ]
11- أن يعلم أن مرارة الدنيا هي حلاوة الآخرة:
قال ابن القيم :
[ إن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، يقلبها الله سبحانه كذلك،
وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة،
ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك،
فإن خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق:
( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات )
وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرجال،
فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول،
ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد، ولا ذل ساعة لعز الأبد،
ولا محنة ساعة لعافية الأبد، فإن الحاضر عنده شهادة، والمنتظر غيب،
والإيمان ضعيف، وسلطان الشهوة حاكم،
فتولد من ذلك إيثار العاجلة ورفض الآخرة ]
12- أن يشهد أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد،
حركاتهم وسكناتهم وإراداتهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن،
فلا يتحرك في العالم العلوي والسفلي ذرة إلا بإذنه ومشيئته، فالعباد آلة،
فانظر إلى الذي سلطهم عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك،
تسترح من الهم والغم.
13- أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه،
كما قال تعالى :
{ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ }
[ الشورى: 30 ]
14- أن يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفا وصبر،
كما قال تعالى:
{ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }
[ الشورى:40 ]
15- أن يشهد أنه إذا عفا وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه،
ونقائه من الغش والغل وطلب الانتقام وإرادة الشر،
وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلًا وآجلًا.
16- أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلًّا يجده في نفسه،
فإذا عفا أعزه الله تعالى، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث يقول:
( ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا )
17- أن يشهد أن الجزاء من صنف العمل، وأنه نفسه ظالم مذنب،
وأن من عفا عن الناس عفا الله عنه، ومن غفر لهم غفر الله له.
18- أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه،
وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه مالا يمكن استدراكه.
19- إن أوذي على ما فعله لله، أو على ما أمر به من طاعته
ونهى عنه من معصيته، وجب عليه الصبر، ولم يكن له الانتقام،
فإنه قد أوذي في الله فأجره على الله.
20- أن يشهد معية الله معه إذا صبر، ومحبه الله له إذا صبر،
ورضاه ومن كان الله معه دفع عنه أنواع الأذى
والمضرات مالا يدفعه عنه أحد من خلقه، قال تعالى:
{ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }
[الأنفال: 46]
وقال تعالى :
{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }
[آل عمران: 146 ]
21- أن يشهد أن صبره حكم منه على نفسه، وقهر لها وغلبة لها،
فمتى كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقه
وأسره وإلقائه في المهالك، ومتى كان مطيعًا لها سامعًا منها مقهورًا معها،
لم تزل به حتى تهلكه، أو تتداركه رحمة من ربه.
22- أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولابد، فالله وكيل من صبر،
وأحال ظالمه على الله، ومن انتصر لنفسه وكله الله إلى نفسه،
فكان هو الناصر لها.
23- أن صبره على من آذاه واحتماله له يوجب رجوع خصمه عن ظلمه،
وندامته واعتذاره، ولوم الناس له،
فيعود بعد إيذائه له مستحييًا منه نادمًا على ما فعله، بل يصير مواليًا له .