ومع ذلك فقد يتوهم البعض فيقول:
إن هذا الحديث مع كونه ضعيفا قد ورد من عدة طرق، والحديث الضعيف
لو روي من عدة طرق تقوى ببعضها.ونحن نرد على ذلك فنقول: هذه
قاعدة لها شروط بينها بالتفصيل علماء الحديث، ولا تنطبق على هذا
الحديث؛ فطرقه تزيده ضعفا على ضعفه لما فيها من المتروكين والمتهمين بالكذب.
"إذا روي الحديث من وجوه ضعيفة لا يلزم أن يحصل من مجموعها
حسن، بل ما كان ضعفه لضعف حفظ راويه الصدوق الأمين زال بمجيئه
من وجه آخر وصار حسنا، وكذا إذا كان ضعفها إرسال زال بمجيئه
من وجه آخر، وأما الضعيف لفسق الراوي و كذبه،
فلا يؤثر فيه موافقة غيره له"[14].
"لا يلزم من ورود الحديث من طرق متعددة أن يكون حسنا؛ لأن الضعيف
يتفاوت، فمنه ما لا يزول بالمتابعات، يعني لا يؤثر كونه تابعا ومتبوعا،
كرواية الكذابين والمتروكين، ومنه ضعف يزول بالمتابعة، كما إذا كان
راويه سيء الحفظ، أو روي الحديث مرسلا، فإن المتابعة تنفع حينئذ"[15].
وعلق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله على ما قاله ابن كثير بقوله:
"وبذلك يتبين خطأ كثير من العلماء المتأخرين في إطلاقهم أن الحديث
الضعيف إذا جاء من طرق متعددة ضعيفة ارتقى إلى درجة الحسن
والصحيح، فإنه إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب،
ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع ازداد ضعفا إلى ضعف؛ لأن تفرد
المتهمين بالكذب، أو المجروحين في عدالتهم بحيث لا يرويه غيرهم
يرفع الثقة بحديثهم ويؤيد ضعف روايتهم، وهذا واضح"[16].
وبتحقيق طرق حديث ثعلبة بن حاطب لم نجد فيها أية صفة من تلك
الصفات التي ذكرها النووي وابن الصلاح في الطرق التي يتقوى الحديث
بها، فليس فيها مثلا راو واحد على الأقل هو من أهل الصدق، علمنا أنه
ضعيف، بل هم من المتهمين بالكذب، أو المعروفين بالضعف الشديد،
كما أنه ليس فيها طريق واحدة مرسلة مقبولة. ولعل هذا القدر النقدي
لسند هذه القصة المفتعلة كاف لإسقاطها من أساسها[17].
ثانيا. متن الحديث يدل على بطلان القصة:
إن الناظر بعين فاحصة لمتن هذه القصة يتبين له بطلانها:
لقد انتشرت هذه القصة في كثير من كتب التفاسير، وجعلها بعض
المفسرين سببا من أسباب النزول للآيات التي وردت في سورة التوبة
{ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ { 75 }
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ { 76 }
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ
بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم"، والنسفي في تفسيره، والمحلي
والسيوطي في "الجلالين"، والطبري في "جامع البيان"، والقرطبي
في "الجامع لأحكام القرآن"، وابن جزي في تفسيره، وأبو حيان
الأندلسي في "البحر المحيط"، و"تفسير المنار"، وابن الجوزي
في "زاد المسير"، والشيرازي في "تقريب القرآن"، والزمخشري
في "الكشاف"، والألوسي في "روح المعاني"، والفخر الرازي
في تفسيره، وسيد قطب في "الظلال"، والمراغي في تفسيره.
ولقد رد أكثر هؤلاء المفسرين هذا الخبر لعدم صحته، فعلى سبيل المثال:
وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان، فما روي
عنه غير صحيح. قال أبو عمر ابن عبد البر: ولعل قول من قال في ثعلبة:
إنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح. [18]
إن الآية نزلت في رجال من المنافقين، نبتل بن الحارث، وجد بن قيس
ومعتب بن قشير، ثم يقول: وهذا أشبه بنزول الآية فيهم، إلا أن قوله:
يدل على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقا من قبل، إلا أن يكون المعنى:
زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات،
فإذا كان صاحب هذه القصة - كما يدعي المدعون - هو ثعلبة بن حاطب
البدري الذي شهد بدرا، وأجمع على ذلك ابن منده، وأبو عمر ابن
عبد البر كما قال ابن الأثير: "وكلهم قالوا: إنه شهد بدرا".
وقتل يوم أحد، فإن كان هذا الذي في الترجمة فإما أن يكون ابن الكلبي
قد وهم في قتله، أو تكون القصة غير صحيحة أو يكون غيره.
وهذا يؤكد أن القصة غير صحيحة.
ولما ثبت أن ثعلبة بن حاطب شهد بدرا، فهل هذا مصير من شهد بدرا والحديبية؟!
"وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:
_( لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية )[20]
وحكى عن ربه أنه قال لأهل بدر:
( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )[21]
فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله نفاقا في قلبه وينزل فيه ما نزل؟![22]
وكل هذا يدل على عدالة هذا الصحابي وفساد هذه القصة التي يحاول
المغالطون إلصاقها به.ويسوق ابن حزم لنا دليلا عقليا على بطلان هذه
القصة، ولو لم يستشهد ثعلبة في أحد –
"وهذا باطل لا شك فيه؛ لأن الله أمر بقبض زكوات أموال المسلمين،
وأمر - صلى الله عليه وسلم - عند موته ألا يبقى في الجزيرة العربية
دينان، فلا يخلو ثعلبة من أن يكون مسلما ففرض على أبي بكر وعمر
قبض زكاته ولا بد، ولا فسحة في ذلك، وإن كان كافرا ففرض
ألا يبقى في جزيرة العرب؛ فسقط هذا الأثر بلا شك"[23].
وثمة إشكال آخر متعلق بمخالفة القصة لصحيح السنة المطهرة التي
بينت حق أهل بدر، فنظرا لكل هذه الإشكالات نجزم ببطلان هذه القصة المزعومة[24].
وبهذا يبرأ هذا الصحابي الجليل، مما نسب إليه وتتأكد عدالته، ويطيش كل
سهم موجه إليه ليطعنه، وتبقى السنة وحاملوها في أعلى درجات الصحة والكمال.
· إن التحقيق العلمي لجميع طرق هذه القصة أثبت أنها ضعيفة جدا
من ناحية السند؛ ذلك لأن رواتها منهم من هو متهم بالكذب، ومنهم
من هو معروف بالضعف الشديد.
فها هو "معان بن رفاعة" قال عنه ابن حجر: "لين الحديث، كثير
الإرسال"، كما أورده ابن حبان في المجروحين، وأما "علي بن يزيد"
فقد أورده ابن حبان في "المجروحين" وقال: "علي بن يزيد منكر
الحديث جدا، بل أجمع العلماء على ضعفه، وكذلك عطية بن سعد العرفي
ذكره ابن حجر في "طبقات المدلسين" في "المرتبة الرابعة"، وذكر أنه
مشهور بالتدليس القبيح؛ فكيف إذن تصح هذه القصة؟!
· إن ثعلبة - رضي الله عنه - شهد بدرا، ومعلوم أن أهل بدر قد شهد لهم
الله - سبحانه وتعالى - ونبيه - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان، فكيف
يكون منهم - بعد ذلك - من يمنع الزكاة - وهي ركن من أركان الإسلام –
ويموت على نفاقه؟!! ولعل هذا دليل قاطع على بطلان هذه الشبهة،
كما بين ذلك الشيخ محمد رشيد رضا، وقال ابن عبد البر: ولعل قول
من قال في ثعلبة: إنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح،
ولعل الكلبي قد أجهز على هذه الشبهة حينما ذكر أن ثعلبة استشهد
في غزوة أحد، وكل هذا يؤكد - بلا شك - على عدالة ثعلبة
- رضي الله عنه - ويبين زيف هذه الشبهة.
· من خلال ما سبق يتبين لنا أن القصة المكذوبة على ثعلبة بن حاطب
الصحابي الجليل الذي شهدا بدرا، لا تتفق وصحيح السنة المطهرة التي
بينت حق أهل بدر المشهود لهم بالجنة، وبه تبقى عدالة
الصحابي الجليل ثعلبة بن حاطب وتتأكد براءته من كل ما نسب إليه.