فزال الإشكال الآن.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
( إن الله خلق آدم على صورته )
والصورة مماثلة للأخرى، ولا يعقل صورة إلا مماثلة للأخرى، ولهذا أكتب
لك رسالة، ثم تدخلها الآلة الفوتوغرافية، وتخرج الرسالة، فيقال:
هذه صورة هذه، ولا فرق بين الحروف والكلمات؛ فالصورة مطابقة
للصورة، والقائل
( إن الله خلق آدم على صورته )
الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم وأصدق وأنصح وأفصح الخلق.
والجواب المجمل أن نقول: لا يمكن أن يناقض هذا الحديث
قوله تعالى:
}لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {
[الشورى: 11]
فإن يسر الله لك الجمع؛ فاجمع، وإن لم يتيسر؛ فقل:
} آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا {
[آل عمران: 7]
وعقيدتنا أن الله لا مثيل له؛ بهذا تسلم أمام الله عز وجل.
هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه
بعضاً؛ لأنه كله خبر وليس حكماً كي ينسخ؛ فأقول: هذا نفي للمماثلة،
وهذا إثبات للصورة؛ فقل: إن الله ليس كمثله شيء، وإن الله خلق آدم
على صورته؛ فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله, والكل حق نؤمن به،
ونقول: كل من عند ربنا ونسكت وهذا هو غاية ما نستطيع.
وأما الجواب المفصّل؛ فنقول: إن الذي قال:
( إن الله خلق آدم على صورته )
رسول الذي قال:
} لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {
[الشورى: 11]
والرسول لا يمكن أن ينطق بما يكذب المرسل والذي قال:
( خلق آدم على صورته )
هو الذي قال:
( إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر )
فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من
كل وجه, أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة, والحسن,
والجمال, واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لا من كل
وجه؟! فإن قلت بالأول؛ فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين, وليس لهم
آناف, وليس لهم أفواه! وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار! وإن قلت
بالثاني؛ زال الإشكال، وتبين أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة
الشيء أن يكون مماثلاً له من كل وجه.
فإن أبى فهمك، وتقاصر عن هذا وقال: أنا لا أفهم إلا أنه مماثل.
قلنا: هناك جواب آخر، وهو أن الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق
إلى خالقه؛ فقوله: ((على صورته))؛
مثل قوله عز وجل في آدم:
} وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي {
[الحجر: 29]
ولا يمكن أن الله عز وجل أعطى آدم جزءاً من روحه، بل المراد الروح
التي خلقها الله عز وجل، لكن إضافتها إلى الله بخصوصها من باب
التشريف؛ كما نقول: عباد الله؛ يشمل الكافر, والمسلم, والمؤمن,
والشهيد, والصديق, والنبي, لكننا لو قلنا: محمد عبد الله؛
هذه إضافة خاصة ليست كالعبودية السابقة.
فقوله:
( خلق آدم على صورته )
يعني: صورة من الصور التي خلقها الله وصورها؛
كما قال تعالى:
} وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ
ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ {
[الأعراف: 11]،
والمصور آدم إذاً؛ فآدم عل صورة الله؛ يعني: أن الله هو الذي صوره
على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات
} لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ {
[التين: 4]؛
فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف؛ كأنه عز وجل اعتنى بهذه
الصورة ومن أجل ذلك؛ لا تضرب الوجه؛ فتعيبه حساً، ولا تقبحه فتقول:
قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك؛ فتعيبه معنىً؛ فمن أجل أنه
الصورة التي صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفاً وتكريماً؛
لا تقبحها بعيب حسي ولا بعيب معنوي.
ثم هل يعتبر هذا الجواب تحريفاً أم له نظير؟
نقول: له نظير، كما في: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله؛ لأن هذه الصورة
(أي: صورة آدم) منفصلة بائنة من الله, وكل شيء أضافه الله إلى نفسه
وهو منفصل بائن عنه؛ فهو من المخلوقات؛ فحينئذ يزول الإشكال.
ولكن إذا قال قائل: أيما أسلم المعنى الأول أو الثاني؟ قلنا: المعنى الأول
أسلم، ما دمنا نجد أن لظاهر اللفظ مساغاً في اللغة العربية, وإمكاناً
في العقل؛ فالواجب حمل الكلام عليه, ونحن وجدنا أن الصورة لا يلزم
منها مماثلة الصورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهره.
فإذا قلت: ما هي الصورة التي تكون لله ويكون آدم عليها ؟
قلنا: إن الله عز وجل له وجه, وله عين, وله يد, وله رجل عز وجل،
لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان؛ فهناك شيء
من الشبه لكنه ليس على سبيل المماثلة؛ كما أن الزمرة الأولى من أهل
الجنة فيها شبه من القمر لكن بدون مماثلة، وبهذا يصدق ما ذهب إليه
أهل السنة والجماعة؛ من أن جميع صفات الله سبحانه وتعالى ليست
مماثلة لصفات المخلوقين؛ من غير تحريف ولا تعطيل
ومن غير تكييف ولا تمثيل.
نسمع كثيراً من الكتب التي نقرأها يقولون: تشبيه؛ يعبرون بالتشبيه
وهم يقصدون التمثيل؛ فأيما أولى: أنعبر بالتشبيه، أو نعبر بالتمثيل؟
نقول بالتمثيل أولى.
أولاً: لأن القرآن عبر به:
}لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{
[الشورى: 11]،
}فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً {
[البقرة: 22]..
وما أشبه ذلك، وكل ما عبر به القرآن؛ فهو أولى من غيره؛ لأننا لا نجد
أفصح من القرآن, ولا أدل على المعنى المراد من القرآن، والله أعلم
بما يريده من كلامه، فتكون موافقة القرآن هي الصواب، فنعبر بنفي
التمثيل. وهكذا في كل مكان؛ فإن موافقة النص في اللفظ
أولى من ذكر لفظ مرادف أو مقارب.
ثانياً: أن التشبيه عند بعض الناس يعني إثبات الصفات ولهذا يسمون
أهل السنة: مشبهة؛ فإذا قلنا: من غير تشبيه وهذا الرجل لا يفهم
من التشبيه إلا إثبات الصفات؛ صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات!
فصار معنى التشبيه يوهم معنى فاسداً, فلهذا كان العدول عنه أولى.
ثالثاً: أن نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح؛ لأن ما من شيئين
من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه،
والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقاً؛ لكنت نفيت
كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما.
مثلاً: الوجود؛ يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك نوع
تشابه، لكن فرق بين الوجودين؛ وجود الخالق واجب,
ووجود المخلوق ممكن.
وكذلك السمع؛ فيه اشتراك؛ الإنسان له سمع، والخالق له سمع
لكن بينهما فرق، لكن أصل وجود السمع مشترك.
فإذا قلنا: من غير تشبيه ونفينا مطلق التشبيه؛ صار في هذا إشكال.
وبهذا عرفنا أن التعبير بالتمثيل أولى من ثلاثة أوجه
فإن قلت: ما الفرق بينهما من وجهين.
الأول: أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل؛ فتقول يد فلان مثل يد فلان،
والتكييف ذكر الصفة غير مقيدة بمماثل؛ مثل أن تقول: كيفية يد فلان كذا وكذا.
وعلى هذا نقول: كل ممثل مكيف، ولا عكس.
الثاني: أن الكيفية لا تكون إلا في الصفة والهيئة، والتمثيل يكون في ذلك
كما في قوله تعالى:
}اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ {
[الطلاق: 12]؛
أي: في العدد