[4] القيامة قيامتان : صغرى وكبرى
ثم أخبر عن القيامة الصغرى , و هي سكرة الموت, و أنها تجيء بالحق ,
و هو لقاؤه سبحانه و تعالى , و القدوم عليه , و عرض الروح عليه,
و الثواب و العقاب الذي تعجل لها قبل القيامة الكبرى .
ثم ذكر القيامة الكبرى بقوله :
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ }
ثم أخبر عن أخبار الخلق في هذا اليوم , و أن كل أحد يأتي الله سبحانه
و تعالى ذلك اليوم و معه سائق يسوقه, و شهيد يشهد عليه , و هذا غير
جوارحه, و غير شهادة الأرض التي كان عليها له وعليه, و غير شهادة
فان الله سبحانه وتعالى يستشهد على العباد الحفظة والأنبياء والأمكنة
التي عملوا عليها الخير والشر, والجلود التي عصوه بها, ولا يحكم
بينهم بمجرّد علمه, وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين .
ولهذا أخبر نبيه أنه يحكم بين الناس بما سمعه من اقرارهم, وشهادة
البيّنة, لا بمجرّد علمه من غير بيّنة ولا اقرار؟ ثم أخبر سبحانه أن
الانسان في غفلة من هذا الشأن الذي هو حقيق بأن لا يغفل عنه,
وأن لا يزال على ذكره وباله, وقال:
{ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا }
{ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. }
ولم يقل في شك فيه, وجاء هذا في المصدر وان لم يجئ في الفعل فلا
يقال غفلت منه ولا شككت منه كأن غفلته وشكه ابتداء منه, فهو مبدأ
غفلته وشكّه, وهذا أبلغ من أن يقال في غفلة عنه وشك فيه, فانه جعل
ما ينبغي أن يكون مبدأ التذكرة واليقين ومنشأهما مبدأ للغفلة والشك.
ثم أخبر أن غطاء الغفلة والذهول يكشف عن ذلك اليوم كما يكشف غطاء
النوم عن القلب فيستيقظ, وعن العين فتنفتح. فنسبة كشف هذا الغطاء
عن العبد عند المعاينة كنسبة كشف غطاء النوم عنه عند الانتباه .
ثم أخبر سبحانه أن قرينه, وهو الذي قرن به في الدنيا من الملائكة,
يكتب عمله. وقوله يقول لمّا يحضره: هذا الذي كنت وكّلتني به في الدنيا
قد أحضرته وأتيتك به, هذا قول مجاهد .
المعنى: هذا ما كتبته عليه وأحصيته من قوله وعمله حاضر عندي.
والتحقيق أن الآية تتضمّن الأمرين, أي هذا الشخص الذي وكلت به
وهذا عمله الذي أحصيت عليه.
{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ }
وهذا اما أن يكون خطابا للسائق والشهيد, أو خطابا للملك الموكل بعذابه
وان كان واحدا. وهو مذهب معروف من مذاهب العرب في خطابها, أو
تكون الألف منقلبة عن نون التأكيد الخفيفة, ثم أجرى الوصل مجرى الوقف .
ثم ذكر صفات هذا الملقى فذكر له ست صفات :
(أحدها) أنه كفار لنعم الله وحقوقه, كفار بدينه وتوحيده وأسمائه
وصفاته, كفّار برسله وملائكته, كفار بكتبه ولقائه .
(الثانية) أنه معاند للحق يدفعه جحدا وعنادا .
(الثالثة) أنه مناع للخير, وهذا يعم منعه للخير الذي هو احسان الى نفسه
من الطاعات والقرب الى الله والخير الذي هو احسان الى الناس, فليس
فيه خير لنفسه, ولا لبني جنسه كما هو حال أكثر الخلق.
(الرابعة) أنه مع منعه للخير معتد على الناس, ظلوم غشوم معتد
(الخامسة) أنه مريب, أي صاحب ريب وشك, ومع هذا فهو آت لكل
ريبة, يقال: فلان مريب, اذا كان صاحب ريبة .
(السادسة) أنه مع ذلك مشرك بالله, قد اتّخذ مع الله الها آخر يعبده,
ويحبه, ويغضب له, ويرضى له, ويحلف باسمه, وينذر له, ويوالي فيه,
ويعادي فيه, فيختصم هو وقرينه من الشيطان, ويحيل الأمر عليه, وأنه
هو الذي أطغاه وأضله. فيقول قرينه: لم يكن لي قوّة أن أضلّه وأطغيه,
ولكن كان في ضلال بعيد, واختاره لنفسه, وآثره على الحق,
كما قال ابليس لأهل النار:
{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ }
وعلى هذا, فالقرين هنا هو شيطانه, يختصمان عند الله. وقالت طائفة:
بل قرينه ها هنا هو الملك, فيدعي عليه أنه زاد عليه فيما كتبه عليه
وطغى, وأنه لم يفعل ذلك كله, وأنه أعجله بالكتابة عن التوبة, ولم يمهله
حتى يتوب, فيقول الملك: ما زدت في الكتابة على ما عمل ولا أعجلته
{ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ }
{ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ }
وقد أخبر سبحانه عن اختصام الكفار والشياطين بين يديه
في سورتي [الصافّات] 27-38, و [الأعراف]37-39. وأخبر
عن اختصام الناس بين يديه في سورة [الزمر]56-60. وأخبر
عن اختصام أهل النار فيها في سورة [الشعراء] 96-104,
ثم أخبر سبحانه أنه لا يبدّل القول لديه, فقيل: المراد بذلك قوله:
{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم َ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }
. ووعده لأهل الايمان بالجنة, وأن هذا لا يبدل ولا يخلف.
يريد ما لوعدي خلف لأهل طاعتي ولا أهل معصيتي.
قد قضيت ما أنا قاض . و هذا أصح القولين في الآية .
وفيها قول آخر: ان المعنى ما يغيّر القول عندي بالكذب والتلبيس كما يغيّر
عند الملوك والحكّام. فيكون المراد بالقول قول المختصمين, وهو اختيار
الفراء وابن قتيبة, قال الفراء: المعنى مايكذب عندي لعلمي بالغيب.
أي ما يحرف القول عندي ولا يزاد فيه ولا ينقص منه.
لأنه قال القول عندي, ولم يقل قولي, وهذا كما قال لا يكذب عندي.
فعلى القول الأوّل يكون قوله:
{ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ. }
في المعنى, أي ما قلته ووعدت به لا بد من فعله. ومع هذا فهو عدل
لا ظلم فيه ولا جور . وعلى الثاني يكون قد وصف نفسه بأمرين .
أحدهما: أن كمال علمه واطلاعه يمنع من تبديل القول بين يديه
والثاني : أن كمال عدله وغناه يمنع من ظلمه لعبيده .
ثم خبّر عن سعة جهنّم وأنها كلّما ألقى فيها فوج:
{ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ }
وأخطأ من قال ان ذلك للنفي, أي ليس من مزيد, والحديث الصحيح
يردّ هذا التأويل . الحديث :
عن النبي صلى الله عليه وسلّم :
( يلقى في النار وتقول هل من مزيد ,
حتى يضع قدمه فتقول : قط قط )
البخاري 8\460 رقم 4848,4849
( يقال لجهنّم هل امتلأت ؟ وتقول هل من مزيد ؟ فيضع الرب
تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط )