وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:
اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون
, فإنه تتجلى لهم أمور صادقة
وقال أبو عثمان النيسابوري:
من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى
على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛
لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم:
}وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا {
من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشبهات، وعمر باطنه
بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال
المقام الثالث: خرق العادة لا يدل على الولاية
قد يظهر شيء – مما يظن أنه كرامة – على يد أهل الرياضة، وترك
الاستكثار من الطعام والشراب، والملازمين للسهر والخلوات، وذلك
على ترتيب معلوم، وقانون معروف لديهم.. فيحصل للواحد منهم نوع
صفاء من الكدورات البشرية، حتى يدرك ما لا يدركه غيره، فيخبر بموت
فلان الغائب، أو بقدومه في وقت كذا، ونحو ذلك، وليس في هذا ما يدل
على أنه كرامة، أو أنه ولي الله، بل يتفق ذلك لكثير من المرتاضين،
بل قد يحصل على لسان بعض المجانين شيء من ذلك، فيأتي في بعض
الأحيان بمكاشفات صحيحة، وهو مع ذلك متلوث بالنجاسات، مخالط
للقاذورات، فيغتر به من جهل حاله، فينسبه إلى أولياء الله المقربين،
وهو في الحقيقة معذور قد رفع عنه قلم التكليف،
فليس هو ولياً لله ولا عدواً له .
إذا بلغك أن عارفاً أطاق بقوته فعلاً, أو تحريكاً, أو حركة تخرج عن وسع
مثله؛ فلا تتلقه بكل ذلك الاستنكار، فلقد تجد إلى سببه سبيلاً
إذا بلغك أن عارفاً حدث عن غيب فأصاب متقدماً ببشرى أو نذير،
فصدق، ولا يتعسرن عليك الإيمان به، فإن لذلك في مذاهب الطبيعة
فهذا مما يؤكد أن تلك الخوارق قد ينالها الكافر بأسباب طبيعية،
لا تدل على ولاية ولا كرامة. وقد قسم أهل العلم الفراسة إلى ثلاثة أقسام
وذكروا منها الفراسة الرياضية، وأنها تحصل بالجوع, والسهر, والتخلي،
وأنها مشتركة بين المؤمن والكافر، لا تدل على ولاية، ولا تكشف
عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم.
فإذا كانت هذه الخوارق تقع من المسلم ومن الكافر، وتتعدد أسبابها،
وتختلف مصادرها: فقد تكون من الله، أو من نفس الإنسان،
أو من الشيطان، لم يكن في وقوعها من شخص ما دليل على ولايته
وصلاحه، كما أنه لا يضر المسلم عدمها، فمن لم تنكشف له شيء
من المغيبات، أو لم تسخر له شيء من الكونيات لا ينقص ذلك
في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دنياه وآخرته .
لكن الدين إذا صح علماً وعملاً فإنه يوجب خرق العادة – كما مر –
}أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ {
فلم يذكر لهم شيئاً أحسن من الوصف بالإيمان والتقوى.
كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك
متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة
من ألزم نفسه آداب الله نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف
من مقام متابعة الحبيب -عليه الصلاة والسلام- في أوامره،
أكمل الإلهام أن يلهم الرجل أتباع الشرع،
والنظر في الكتب الإلهية، ويقف عند حدودها وأوامرها...
ثم إن الخارق – المكاشفة – قد يقع للمؤمن لنقصان درجته وضعف يقينه،
أما من كوشف بصدق اليقين – يقين المعرفة الشرعية – ورفع عن قلبه
حجاب الشبهة والشهوة، أغناه ذلك عن معاينة الخوارق، بل الحكمة
لا تقتضي حصولها لمن هذا حاله، إنما تحصل للأول لحاجته إليها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة، ثم إذا وقع
في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع، فما يبالي، ولا ينقص بذلك،
وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة
وقال تليمذه ابن القيم رحمه الله:
الكشف الصحيح أن يعرف الحق الذي بعث الله به رسله, وأنزل به كتبه،
معاينة لقلبه، ويجرد إرادة القلب له، فيدور معه وجوداً وعدماً،
هذا هو التحقيق الصحيح، وما خالفه فغرور قبيح
المقام الخامس: مرتبة الوحي أعظم
وأشرف من مرتبة الكشف والإلهام ونحوهما:
عدد ابن القيم رحمه الله مراتب الهداية، وأوصلها إلى عشر مراتب،
ذكر في مقدمتها: التكليم، والوحي، وإرسال الملك، وجعل هذه الثلاث
خاصة بالأنبياء لا يشركهم فيها أحد من الأولياء. ثم ذكر في المرتبة
الرابعة: مرتبة التحديث، وفي المرتبة التاسعة: الإلهام،
والرؤية في المرتبة العاشرة... .
فهذا يبين أن مرتبة الوحي وعلم الشريعة – التي مصدرها الوحي –
أفضل وأشرف من مرتبة التحديث والإلهام وغيرها من مصادر العلم،
الأول: أن علم الشريعة خبراً وطلباً لا ينال إلا من جهة الوحي الذي طريقه
الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما العلم بالمكاشفات ونحوها فأسبابه
كثيرة، ومعلوم أن ما اختص به الرسول وورثته أفضل مما يشركهم
الثاني: أن الشريعة لا يعمل بها إلا المؤمنون الصالحون الذين هم أهل
الجنة وأحباب الله وصفوته وأولياؤه، ولا يأمر بها إلا هم، وأما المكاشفات
ونحوها فقد تقع من كافر, ومنافق, وفاجر، فما كان من العلم مختصاً
بالصالحين فهو أفضل مما يشترك فيه المصلحون والمفسدون.
الثالث: العلم بالشريعة والعمل به ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة، ويدفع
عنه مضرة الدنيا والآخرة من غير حاجة معه إلى الكشف ونحوه،
وأما العلم بالكشف وغيره إن لم يقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في
الدنيا والآخرة؛ أما في الآخرة فلعدم الدين؛ وأما في الدنيا فلأن الإنسان
يعرض نفسه، ودينه، وجسمه، وقلبه، وعقله، وأهله وماله لمخاطرات،
لا يضمن حسن العاقبة معها، فكم منهم من ذهب عقله وماله،
وأشقى نفسه من غير حصول مطلوبه.
الرابع: إن الدين إذا صح علماً وعملاً فلابد أن يوجب خرق العادة
} وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ {
وليس العكس، أعني أن خرق العادة لا يدل على صحة الدين علماً وعملاً.
الخامس: أن المقصود من الوحي والشرع مراعاة حق العبودية وإقامتها,
وقد أمر بذلك الشارع، ومقصود المتصوفة من الكشف ونحوه مشاهدة
الربوبية، ولم يأمر بها الشارع، ومن المعلوم أن مراعاة ما أمر به
الشارع أولى من مراعاة ما لم يأمر به.