فيا من شغلت قلبك بغير الله أتدري ماذا حصدت؟! لقد حصدت الغفلة
وبئس ما حصدت! ورجعت بالخيبة والحرمان.. وبئست الصفقة!
الحمدلله تعالى أكرم فأحسن التقويم، وهدى عباده إلى صراطه المستقيم،
والصلاة والسلام على المبعوث بالنور الأنور، وعلى آله وأصحابه أرباب
وبعد: الذنوب ما أسوأ طريقها؟
وما أخسر ربحها!!صاحبها في عناء! وطالبها في تعب!!
راحتها سراب كاذب! وشقاؤها يقين صادق!!وهذه أيها المذنب لافتات
تمر بها وأنت في طريق المعاصي!!نعم.. إنها لافتات قد لا تراها ولكنها
في طريقك تمر عليها في صباحك والمساء فهل وقفت يوماً لتنظر فيها
وتقرأ حروفها؟!فتنبه أيها المذنب واقرأ معي هذه اللافتات واحدة واحدة
{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
قلوب أعمتها الدنيا بالزخرف الكاذب وتربع في شغافها حبها الأنكد
لا تعرف السرور إلا عن طريقها.. ولا تهتدي إلى اللذاذة إلا من بابها
ركدت خلف سرابها الخادع.. وتجافت عن سرورها الضائع!
ساعات تمضي بغير حساب.. وأعمار تنقضي إلى خراب!
ومن البلية أن ترى لك صاحباً *** في صورة الرجل السميع المبصر
فطن بكل مصيبــــة في مالـه *** وإذا يصـــاب بدينــــه لــــم يشعـر
مابالك تحصد الفاني.. وتترك الباقي؟!ما بالك أعرضت عن لذة الطاعات
وتلذذت بمرارة الخطيئات؟! أهي الغفلة.. أم الفطنة والعقل؟!
كان عمر بن عبدالعزيز يقول:
تُسرُّ بما يبلى ونفرح بالمُنـى *** كما اغترَّ باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلــــة *** وليلــــك نـومٌ والــــردى لـــك لازم
وسعيك فيما سوف تكره غبة *** كـذلك في الـدنيا تعيـش البهائم
أيها المذنب! سكون قلبك إلى غير مولاك عقاب من الله تعالى
"سكون القلب إلى غير المولى تعجيل عقوبة من الله في الدنيا"
"حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين، وفيه سكون إلى غير الله!
وحرام على قلب أن يدخله النور وفيه شيء مما يكره الله عز وجل"
بئست الخصلة الغفلة عن أمر الله تعالى!
بئس ما تسربلت به! لقد اخترت صفة وصف الله بها أعداؤه.
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا
وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا
أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }
"لأنهم لا يهتدون إلى ثواب فهم كالأنعام، أي همتهم الأكل والشرب،
وهم أضل لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها، وتتبع مالكها،
"الأنعام تعرف الله، والكافر لا يعرفه!"
"الأنعام مطيعة لله تعالى، والكافر غير مطيع!"
{ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }
أي: تركوا التدبر، وأعرضوا عن الجنة والنار فيا من شغلت قلبك بغير الله
أتدري ماذا حصدت؟! لقد حصدت الغفلة.. وبئس ما حصدت! ورجعت
بالخيبة والحرمان.. وبئست الصفقة!
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
"إن أخوف ما أخاف عليكم، اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع
الهوى، فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة"
أيها المذنب! ألهاك طول الأمل عن سعادتك الحقيقية!داء تغلغل في
القلوب.. وتمكن من سويدائها وصاحب الذنب من أطول الناس أملاً
وأكسلهم عن الطاعات! فطول الأمل يورث الغفلة.. والغفلة تورث التهاون
في الطاعات، والوقوع في المعاصي.. ويزداد طول الأمل عند المعاصي،
لأن حب الشهوات يزيد من تعلقه بالدنيا، وحب البقاء!
"ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل"
"فالأمل يكسل عن العمل، ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل
والتقاعس، ويخلد إلى الأرض، ويميل إلى الهوى.. كما أن قصر الأمل
يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة، ويحث على المسابقة"
أيها المذنب! لا تغفلن عن صلاح قلبك!
اعلم أيها المسكين أن صلاح أمرك كله مرهون بصلاح قلبك.. فإذا صلح،
صلحت دنياك وآخرتك.. وإذا فسد، فسد ذلك كله!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله
وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )
"إذا لم يُستعمل القلب فيما خُلق له من الفكر في اجتلاب المصالح في
الدين والدنيا، واجتناب المفاسد تعطل، فاستترت جوهريته، فإذا أضيف
إلى ذلك فعل ما يزيده ظلمة، كشرب الخمر، وطول النوم، وكثرة الغفلة،
صار كالحديد يغشاه الصدأ فيفسده"
يا من وقفت نفسك عند الشهوة الفانية!!يا أيها الغافل عن سعادته
الحقيقية.. واللاهي عن النعيم الباقي! هل فكرت بأي ربح رجعت؟!
{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
دخل ابن السماك على هارون الرشيد، فقال:
عظني وأوجز قال: ما أعجب يا أمير المؤمنين ما نحن فيه! كيف غلب
علينا حب الدنيا؟! وأعجب لما نصير إليه! غفلتنا عنه عجبٌ، لصغير حقير
إلى فناء يصير، غلب على كثير طويل دائم غير زائل!
ويا من اخترت الذنب على الطاعة أتدري ولاية من اخترت؟لقد اخترت
ولاية عدو إبليس.. الذي أغوى من قبل أبويك، وأخرجهما من الجنة
فكم يسره أن يراك على المعصية!!
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً }
فإنك إذا تفوهت بكلمة لم يكن لله فيها نصيب، كانت للشيطان!وإذا أمضيت
بعضاً من وقتك في حاجة لم يكن لله فيها نصيب، كانت للشيطان!
وإذا جلست مجلساً لم يكن لله فيه نصيب، كان مجلساً من مجالس الشيطان!
"إن مجالس الذكر، مجالس الملائكة، ومجالس اللغو مجالس الشياطين،
فليختر العبد أعجبهما إليه، وأولهما به، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة"
فتأمل في حالك أيها المغبون.. واختر ولاية الله تعالى، شقي
أيها المذنب! غرتك الحياة الدنيا بزهرتها.. وسبتك بزخرفها الخادع،
فعكفت ملازماً ساحتها.. وأنخت رحلك بعرصتها!وقد حذَّرك الله تعالى من
زهرتها الكاذبة.. ونعيمها الآفل.. وذمها لك في كتابه العزيز ذماً يزهد
{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ
مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ
وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً
فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تُبسط عليكم
كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها،
أيها المذنب! إنها الدنيا! إذا أضحكت.. لطالما أبكت! وإن حلت.. لطالما
أهلكت! نجا منها الهارب.. وهلك بواديها الراغب! الحكيم من أحكمته
مصائبها.. والغافل من خدعته رغائبها!
أيها الغافل! هل تذكرت الموت؟!
يا من عبثت.. وأضعفت العمر مع اللاهين.. هل تذكرت الرحيل؟!الرحيل
إلى دار ويل من رحل إليها ولم يقدم صالح الأعمال!أيها المذنب! ما ترى
الخلق في كل يوم يرحلون إلى تلك الدار؟!فهل سألت نفسك يوماً:
بأي زاد سترحل؟!أيها المسكين! ما أطول سفرك!
"عجباً لقوم أذنوا بالرحيل وترحل أوائلهم وهم يلعبون"
"يا ابن آدم، تضحك ولعل أكفانك قد خرجت من القصار"