أي: أن الله سبحانه وتعالى مع الإنسان أين ما كان بعلمه
وقدرته وكمال إحاطته بخلقه
وفي الحديث عندما كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه
رديف النبي صلى الله عليه وسلم على الدابة حيث أراد عليه الصلاة والسلام
أن يذكي في نفس ابن عمه الصغير هذا الجانب الهام فقال له :
(يا غلامُ ألا أُعلِّمُك كلماتٍ ينفعُك اللهُ بهنَّ
احفَظِ اللهَ يحفَظْك ، احفَظِ اللهَ تجِدْه أمامك ،
وإذا استعنتَ فاستعِنْ باللهِ ، وإذا سألتَ فاسأَلِ اللهَ ،
رُفِعتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ ، فلو جهَدت الأمَّةُ على أن تنفعَك بشيءٍ
لم تنفَعْك إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك ولو جهَدت على أن تضُرَّك بشيءٍ
لم تضُرَّك إلَّا بشيءٍ كتبه اللهُ لك )
بهذا الأسلوب القرآني والنبوي, يتعلق الولد بالله عز وجل,
ويقطع جميع العلائق دون الله, فلا يرجو إلا الله, ولا يخاف إلا الله,
ولا يسأل إلا الله, فيحفظ الله في خلواته,
وعند قوته بتمام الاستقامة على منهجه,
فيكون دائم المراقبة لله في الرخاء والشدة
وبهذا المنهج تربى الطفل في عصر النبوة تربية راسخة,
جعلته قوة فعالة ثابتة, وأمثلة حقيقية تفوق الخيال,
فلا يكاد يفرق بين الرجل الكبير والطفل الصغير,
فالكل كبار بأفعالهم وأعمالهم الحميدة
فهذا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يؤمن
بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبلغ وهو ابن عشر سنين,
ويتبعه رغم الآلام والخسائر والمعاناة التي يلقاها المؤمنون في ذلك الوقت
في مكة, فلم يمنعه كل هذا – مع صغر سنه – من اتباع الحق,
والتمييز بينه وبين الباطل, واختيار الطريق, وتقرير المصير
وهذا أسامة بن زيد, وأسيد بن ظهير, والبراء بن عازب,
وزيد بن أرقم, وغيرهم كثير, يعرضون أنفسهم
على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يسمح لهم بالمشاركة
في قتال الكفار في غزوة أحد, فيردهم لصغر سنهم
( لمَّا أنزل اللهُ عزَّ وجلَّ على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذه الآيةَ :
تلاها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يومٍ على أصحابِه
فخرَّ فتًى مغشِيًّا عليه ،
فوضع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدَه على فؤادِه فإذا هو يتحرَّكُ
فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم :
يا فتًى قُلْ : لا إلهَ إلَّا اللهُ ، فقالها ، فبشَّره بالجنَّةِ ،
فقال أصحابُه : يا رسولَ اللهِ أمِن بيننا ؟
قال : أوَما سمعتم قولَه تعالَى :
{ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } )
هؤلاء الصبيان الصغار الذين لم يبلغوا الحلم, ولم تصقل خبراتهم بعد,
ولم يتعلموا الكثير من العلوم عرفوا معنى الحياة وحقيقتها, وأنها فانية,
فقد كان دور الأسرة في ذلك الوقت دورا رائدا ورئيسا في إيجاد هذا الشعور
العجيب في قلوب الصغار نحو الله عز وجل, واستشعار معيته ومراقبته لهم
مما دفعهم إلى مزيد من التضحيات في سبيل الله سبحانه وتعالى
وهذا هو النوع من الشعور الذي يطالب الأب المسلم بغرسه
في نفوس أولاده الصغار, وتربيتهم عليه, حتى تتعلق قلوبهم
وأرواحهم بالله عزوجل, فتكون جميع حركاتهم وسكناتهم موافقة
لمنهج الله عز وجل. فإن نجح في هذه المهمة في طفولتهم
فقد ضمن دوام استقامتهم وسلامتهم من الانحرافات في مستقبل حياتهم
إن شاء الله تعالى .
ومن أهم العوامل المساعدة على تنمية هذا الشعور عند الولد
إشعاره بالانتماء إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم,
فالأطفال يحبون هذا الشعور, ويرغبون في شئ يعتقدونه ويعملون من أجله
ليشعروا بمعنى الحياة وقيمتها, فإذا وجههم الأب إلى هذا النوع من الانتماء
يكون قد أشبع في نفوسهم هذا الميل الفطري,
الذي لا يشبعه إلا هذا الانتماء العظيم
والأب يسعى دائما بإشعار الولد بمراقبة الله له في كل وقت
وفي كل مكان, ويوقظ عنده المسؤولية أمام الله,
ويشعره بواجبه تجاهه سبحانه وتعالى. وهذا يمكن تحققه خاصة
مع الولد في سن التمييز,
إذ يمكنه أن يفكر بصورة مجردة, ويفهم ويدرك تلك المعاني.
ويستخدم الأب أسلوب الترغيب والترهيب لينمي في ولده الرغبة
والحب لله من جهة, والخشية والخوف من جهة أخرى,
فيعيش بين الخوف والرجاء. ويلاحظ الأب عدم الإكثار من تخويف الولد
بعذاب الله بصفة مستمرة, خاصة إن لم يكن هناك مبرر لذلك,
أو مناسبة للتذكير, بل يركز قدر الإمكان على جانب الترغيب
ويعلق قلب الولد بجانب الرجاء فهو أكثر حاجة إليه وأرغب فيه.
وإن احتاج إلى الترهيب الذي لابد منه في بعض الأوقات,
فعليه أن يستخدمه بأسلوب غير مباشر,
فإذا قام الولد بعمل حسن محمود قال له:
إن الله سيحبك من أجل هذا العمل ويدخلك الجنة, فإنك لست كالأولاد
الآخرين الذين يعملون السيئات, والذين سيعذبهم الله بالنار
وبهذا الأسلوب يكون الأب قد أثاب ولده على الفعل المحمود,
وفي نفس الوقت حذره بصورة غير مباشرة من الفعل القبيح المذموم
وفي مجال الترغيب والترهيب يمكن للأب أن يعرض على ولده الآيات
والأحاديث في وصف الجنة والنار ففيها العبرة كلها,
والموعظة البالغة التي تنمي في النفس الخشية من الله عز وجل,
والرغبة فيما عنده, ويستعين في هذا المجال بكتاب الترغيب والترهيب
للحافظ المنذري رحمه الله, فقد جمع فيه أحاديث كثيرة في هذا الباب,
فينتقي الأب منها أحاديث متنوعة, سهلة العبارة ومفهومة المعنى,
فيقرأها على الولد في أوقات متفاوتة ومختلفة, مراعيا أن لا يكون ذهن الولد
منشغلا عنه بشاغل, بل يتحين الفرص المناسبة التي يكون فيها الإبن مقبلا
عليه, فارغ الذهن من الملهيات واللعب, فيعرض عليه هذه الآيات
والأحاديث موضحا وشارحا لها بأسلوب حسن سهل, مقتديا في ذلك
بالرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام في توجيهه
لابن عباس في الحديث المتقدم
وينهج الأب مع ولده أسلوب التذكير الدائم برقابة الله له,
وعلمه سبحانه وتعالى بجميع أقواله وأفعاله مستخدما
في ذلك طرقا متنوعة, فإذا حدثه الولد – وهو في سن التمييز – حديثا,
أو نقل إليه خبرا ما, قال له:
يا بني إن كنت صادقا فإن الله سيحبك, ويجزيك على صدقك أجرا,
وسوف أحبك أنا أيضا,
أما إن كنت كاذبا فإن الله لن يحبك, وسوف يعاقبك, ولن أحبك أنا أيضا
وإذا ترك الأب الولد الصغير في غرفته منفردا,
أو في أي مكان بعيدا عن مراقبة الوالد والأهل, ذكّره بمراقبة الله له,
كأن يقول له:
يا بني أتعرف أن الله يراك؟
فيجيبه الولد: نعم يا أبي
فيقول له الأب: إذا فماذا عليك أن تفعل؟
فيرد عليه الولد: لا أفعل شيئا يغضبه
وهنا يحتضنه الأب ويقبله مشعرا له برضاه عن مقالته الحسنة
وبهذه الطريقة من التذكير الدائم بالأساليب المتنوعة تحصل في نفس الطفل
شفافية وحساسية مرهفة، تنصدع خشية لله عندما تسمع ذكره،
أو تستحضر وجوده، كما قال تعالى واصفا هذا الصنف من الناس