الرغبة في الآخرة تقتضي الزهد بالدنيا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد
الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا
ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه
وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون
أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
الرغبة في الآخرة تقتضي الزهد بالدنيا
لا تتم الرغبة في الآخرة الا بالزهد في الدنيا, ولا يستقيم الزهد في الدنيا
النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخسّتها,
وألم المزاحمة عليها والحرص عليها, وما في ذلك من الغصص والنغص
والأنكاد, وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف,
فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها, وهم في حال الظفر بها, وغم وحزن
بعد فواتها. فهذا أحد النظرين.
في الآخرة واقبالها ومجيئها ولا بد, ودوامها وبقائها, وشرف ما فيها
من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما ها هنا فهي
{ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }
. فهي خيرات كاملة دائمة, وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة. فاذا تم
له هذين النظران آثر ما يقتضي العقل ايثاره, وزهد فيما يقتضي الزهد
فيه. فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة الى
النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة, الا اذا تبين الفضل له, واما لعدم
رغبته في الأفضل, وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الايمان وضعف
العقل والبصيرة. فان الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها اما أن
يصدّق بأن هناك أشرف وأفضل وأبقى, واما أن لا يصدّق, فان لم يصدق
بذلك كان عادما للايمان رأسا, وان صدّق ذلك كان فاسد العقل سيء
لا ينفك العبد من أحد القسمين منه. فايثار الدنيا على الآخرة اما من فساد
الايمان, واما من فساد العقل. وما أكثر ما يكون منهما. ولهذا نبذها رسول
الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه وصرفوا عنها
قلوبهم, واطرحوها ولم يألفوها, وهجروها ولم يميلوا اليها, وعدّوها
سجنا لا جنّة. فزهدوا فيها حقيقة الزهد, ولو أرادوها لنالوا منها كل
محبوب ولوصلوا منها الى كل مرغوب. فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها
فردّها, وفاضت على أصحابه فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها,
وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر, وأنها دار عبور لا دار
سرور, وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل, وخيال طيف ما استتم
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
( مالي وللدنيا, انما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها )
أخرجه الترمذي في الزهد وابن ماجه وأحمد والسيوطي.
( ما الدنيا في الآخرة الا كما يدخل أحدكم اصبعه في اليم فلينظر بما ترجع )
أخرجه مسلم في الجنة والترمذي وابن ماجه.
{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ
مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ
وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا
كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
, فأخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها, وأخبر عن دار السلام ودعا اليها.
{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ
فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا }
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ
فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا
ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ
وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }
{ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ }
وقد توعّد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضى بالحياة الدنيا واطمأن بها
وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه, فقال:
{ إنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ *أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }
وعيّر سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين, فقال:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ
أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ }
وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله
وطلب الآخرة, ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى:
{ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ
ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ
مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ }
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }
{ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ
بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ }
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا
فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا
إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا
إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا }
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ }
{ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ
قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }
{ يوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا }
والله المستعان وعليه التكلان