من كتاب الفوائد لأبن القيم يرحمه الله
[75] (فصل) بين الهدى والرحمة- والضلال والشقاء
وكما يقرن سبحانه بين الهدى و التقى والضلال و الغي , فكذلك يقرن بين
الهدى والرحمة و الضلال و الشقاء
{ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
{ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَات مِنْ رَبّهمْ وَرَحْمَة وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ }
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ }
{ رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا }
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
{ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ
ۙوَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. }
ثم أعاد سبحانه ذكرهما فقال :
{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا }
و قد تنوعت عبارات السلف في تفسير الفضل و الرحمة , و الصحيح
أنهما الهدى والنعمة , ففضله هداه , و رحمته نعمته
و قال أبو سعيد الخدري و ابن عباس رضي الله عنهما:
فضل الله القرآن , و رحمته الإسلام ,
فضل الله القرآن و رحمته أن جعلكم من أهله,
وعن الحسن , و الضحّاك , ومجاهد و قتادة فضل الله :
الإيمان , و رحمته القرآن . تفسير القرطبي 8\226)
و لذلك يقرن بين الهدى والنعمة
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }
و من قوله لنبيه يذكره بنعمته عليه :
{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى }
فجمع له بين هدايته له و انعامه عليه بايوائه و اغنائه .
{ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ }
{ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا }
و قال لرسوله صلى الله عليه وسلّم :
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1)
لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2)
وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا }
{ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا }
{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا }
ففضله هدايته , و رحمته إنعامه وإحسانه إليهم وبره بهم .
{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }
و الهدى منعه من الضلال, والرحمة منعته من الشقاء ,
و هذا هو الذي ذكره في أوّل السورة في قوله :
{ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى }
فجمع له بين إنزال القرآن عليه و نفى الشقاء عنه ,
كما قال في آخرها في حق أتباعه :
{ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى }
فالهدى والفضل والنعمة و الرحمة متلازمات لا ينفك بعضها عن بعض,
كما أن الضلال و الشقاء متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر,
{إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ }
و السعر جمع سعير وهو العذاب الذي في غاية الشقاء.
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا
وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ
أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }
{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }
و من هذا أنه سبحانه يجمع بين الهدى و انشراح الصدر و الحياة الطيّبة
وبين الضلال و ضيق الصدر و المعيشة الضنك ,
{ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ
وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا }
{ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ }
وكذلك يجمع بين الهدى والانابة والضلال وقسوة القلب,
{ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }
{ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }
[76] الهدى والرحمة وتوابعهما من صفة العطاء
و الهدى و الرحمة , و توابعهما من الفضل و الإنعام , كله من صفة
العطاء , و الإضلال و العذاب , و توابعهما من صفة المنع , و هو سبحانه
يصرف خلقه بين عطائه و منعه , و ذلك كله صادر عن حكمة بالغة ,
و ملك تام , و حمد تام , فلا اله إلا الله .