من كتاب الفوائد لأبن القيم يرحمه الله
الفوائد من 77 إلى 79
[77] التعلق في المطالب العليا
إذا رأيت النفوس المبطلة الفارغة من الإرادة والطلب لهذا الشأن قد تشبث
بها هذا العالم السفلي وقد تشبثت به فكلها إليه , فانه اللائق بها لفساد
تركيبها , و لا تنقش عليها ذلك فانه سريع الانحلال عنها , و يبقى تشبثها
به مع انقطاعه عنها عذابا عليها بحسب ذلك التعلّق , فتبقى شهوتها
وإرادتها فيها , و قد حيل بينها و بين ما تشتهي على وجه يئست معه
من حصول شهوتها و لذتها . فلو تصوّر العاقل ما في ذلك من الألم
والحسرة لبادر إلى قطع هذا التعلق كما يبادر إلى حسم مواد الفساد ,
و مع هذا فانه ينال نصيبه من ذلك و قلبه و همه متعلق بالمطلب الأعلى
, و الله المستعان .
[78] ايّاك والكذب
ايّاك والكذب فانه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه, ويفسد
عليك تصويرها وتعليمها للناس, فان الكاذب يصور المعدوم موجودا
والموجود معدوما, والحق باطلا , والباطل حقا, و الخير شرا, و الشر
خيرا , فيفسد عليه تصوره وعلمه . و نفس الكاذب معرضة عن الحقيقة
الموجودة نزاعة إلى العدم مؤثرة للباطل . و إذا فسدت عليه قوة تصوره
وعلمه التي هي مبدأ كل فعلى إرادي , فسدت عليه تلك الأفعال وسرى
حكم الكذب إليها فصار صدورها عنه كصدور الكذب على اللسان , فلا
ينتفع بلسانه ولا بأعماله ..
ولهذا كان الكذب أساس الفجور
كما قال النبي صلى الله عليه و سلم :
( إن الكذب يهدي إلى الفجور وان الفجور يهدي إلى النار )
البخاري في الأدب 10\507 رقم 6094 ومسلم , وأبو داود و أحمد .
وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده , ثم يسري إلى
الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله , فيعم الكذب
أقواله وأعماله و أحواله , فيستحكم عليه الفساد و يترامى داؤه إلى
الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدق يقلع تلك المادة من أصلها ..
و لهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق , و أضدادها من الرياء
والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر و الأشر و العجز والكسل والجبن
والمهانة وغيرها أصلها الكذب . فكل عمل ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب .
و الله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده و يثبطه عن مصالحه و منافعه ,
ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه و آخرته , فما استجلبت
مصالح الدنيا و الآخرة بمثل الصدق , و لا مفاسدهما و مضارهما بمثل الكذب
قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }
التوبة119,
و قال :
{ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }
المائدة 119,
و قال :
{ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ }
محمد21,
و قال :
{ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الْأَعْرَاب لِيُؤْذَن لَهُمْ
وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّه وَرَسُوله سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاب أَلِيم }
التوبة 90.
[79] في ظلال الآية الكريمة
في قوله تعالى :
{ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .
في هذه الآية عدة حكم وأسرار و مصالح للعبد , فان العبد إذا علم أن
المكروه قد يأتي بالمحبوب , و المحبوب قد يأتي بالمكروه , لم يأمن أن
توافيه المضرة من جانب المسرّة , و لم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب
المضرة لعدم علمه بالعواقب , فان الله يعلم منها مالا يعلمه العبد
أوجب له ذلك أمورا :
منها : أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وان شق عليه في الابتداء, لأم
عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وان كرهته نفسه فهو خير
لها و أنفع . و كذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهي وان هويته
نفسه و مالت إليه , فان عواقبه كلها آلام و أحزان وشرور و مصائب ,
و خاصية العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة و الخير
الكثير, واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم و الشر الطويل
. فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها , و العاقل الكيّس دائما ينظر
إلى الغايات من وراء تلك الستور من الغايات المحمودة و المذمومة .
فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط به سم قاتل , فكلما دعته لذته إلى تناوله
نهاه ما فيه من السم . ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفضى إلى
العافية والشفاء , وكلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول .
و لكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها , و قوة صبر
يوطن به نفسه على تحمّا مشقة الطريق لما يؤمل عند الغاية , فأذل فقد
اليقين والصبر تعذّر عليه ذلك, و إذا قوي يقينه و صبره هان عليه كل
مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة .
و من أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم
عواقب الأمور , و الرضا بما يختاره له و يقضيه له , لما يرجو فيه
من حسن العاقبة .
و منها : أنه لا يقترح على ربه و لا يختار عليه و لا يسأله ما ليس له به
علم , فلعل مضرّته و هلاكه فيه و هو لا يعلم , فلا يختار على ربه شيئا
بل يسأله حسن الاختيار له و أن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك ..
و منها : أنه إذا فوَّض أمره إلى ربه و رضي بما يختاره له أمده فيما
يختاره له بالقوة عليه و العزيمة و الصبر , و صرف عنه الآفات , التي
هي عرضة اختيار العبد لنفسه , و أراه من حسن عواقب اختياره له
ما لم يكن ليصل إلى بعضه , بما يختاره هو لنفسه .
و منها : أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات , و يفرغ
قلبه من التقديرات و التدبيرات التي يصعد منها في عقبة و ينزل في
أخرى , و مع هذا فلا خروج له عما قدر عليه , فلو رضي باختيار الله
أصابه القدر و هو محمود مشكور ملطوف به فيه, و إلا جرى عليه القدر
و هو مذموم غير ملطوف به فيه . لأنه مع اختياره لنفسه , و متى صح
تفويضه و رضاه , اكتنفه في المقدور و العطف عليه و اللطف به فيصير
بين عطفه و لطفه , فعطفه يقيه ما يحذره , و لطفه يهوّن عليه ما قدره ..
إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده , فلا أنفع
له من الاستسلام و إلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميتة , فان السبع
لا يرضى بأكل الجيف .