المسألة الثانية: وجوب توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم
إن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وإجلاله، وتوقيره، شعبة عظيمة
من شعب الإيمان، وهذه الشعبة غير شعبة المحبة بل إن منزلتها ورتبتها
فوق منزلة ورتبة المحبة. ذلك لأنه ليس كل محب معظماً، ألا ترى أن
الوالد يحب ولده ولكن حبه إياه يدعوه إلى تكريمه ولا يدعوه إلى تعظيمه.
والولد يحب والده فيجمع له بين التكريم والتعظيم. والسيد قد يحب
مماليكه, ولكنه لا يعظمهم. والمماليك يحبون ساداتهم ويعظمونهم.
فعلمنا بذلك أن التعظيم رتبته فوق رتبة المحبة .
فمن حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته
أن يهاب ويعظم ويوقر ويجل أكثر من كل ولد لوالده, ومن كل عبد لسيده،
فهذا حق من حقوقه الواجبة له مما يزيد على لوازم الرسالة, وهو ما أمر
{ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ }
{ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
فأبان أن حق الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته أن يكون معزراً موقراً
مهيباً. وأخبر سبحانه أن الفلاح إنما يكون لمن جمع بين الإيمان به
وتعزيره, ولا خلاف في أن التعزير هاهنا التعظيم .وفي الجمع الحاصل في
الآيتين بين الإيمان به وتعظيمه، تنبيه وإرشاد إلى أن القيام بحقوقه
صلى الله عليه وسلم يعد من الإيمان الواجب الذي لا يتم إيمان العبد إلا به.
فمعلوم أن حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل, وأعظم, وأكرم,
وألزم لنا, وأوجب علينا من حقوق السادات على مماليكهم, والآباء على
أولادهم, لأن الله تعالى أنقذنا به من النار في الآخرة، وعصم به لنا
أرواحنا, وأبداننا, وأعراضنا, وأموالنا, وأهلينا, وأولادنا في العاجلة،
فهدانا به لما إذا أطعناه فيه أدانا إلى جنات النعيم. فأية نعمة توازي
هذه النعم, وأية منة تداني هذه المنن. ثم إنه جل ثناؤه ألزمنا طاعته،
وتوعدنا على معصيته بالنار. ووعدنا باتباعه الجنة. فأي رتبة تضاهي
هذه الرتبة، وأي درجة تساوي في العلا هذه الدرجة. فحق علينا أن نحبه,
ونجله, ونعظمه, ونهابه أكثر من إجلال كل عبد سيده, وكل ولد والده.
وبمثل هذا نطق القرآن, ووردت أوامر الله جل ثناؤه
ففي القرآن الكريم آيات كثيرة جاء فيها التأكيد على هذا الحق
من حقوقه صلى الله عليه وسلم وبخاصة في جوانب معينة
من جوانب تعظيمه ومن تلك الآيات ما يلي
{ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً }
ففي هذه الآية نهي من الله أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بغلظ وجفاء، وأمر لهم أن يدعوه بلين وتواضع
وروى الطبري بسنده عن مجاهد في تفسيرها فقال:
أمرهم أن يدعوه يا رسول الله في لين وتواضع، ولا يقولوا:
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تفسيرها:
خص الله نبيه في هذه الآية بالمخاطبة بما يليق به، فنهى أن يقولوا:
يا محمد, أو يا أحمد، أو يا أبا القاسم، ولكن يقولوا: يا رسول الله، يا نبي الله
وكيف لا يخاطبونه بذلك، والله سبحانه أكرمه في مخاطبته إياه بما لم
يكرم به أحداً من الأنبياء، فلم يدعه باسمه في القرآن قط، بل يقول
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا }
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ }
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ }
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً }
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ }
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ }
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ }
{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ }
{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ }
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ }
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ }
{ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ }
{ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ }
{ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا }
{ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ }
{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ }
{ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ }
وإذا كنا في باب العبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم علينا أن نفرق
بين مخاطبته والإخبار عنه. فإذا خاطبناه كان علينا أن نتأدب بآداب
{ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً }
فلا تقول يا محمد, يا أحمد، كما يدعو بعضنا بعضاً بل نقول:
يا رسول الله، يا نبي الله. والله سبحانه وتعالى خاطب الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام بأسمائهم فقال:
{ يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ }
{ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ }
{ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ }
{ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ }
ولما خاطبه صلى الله عليه وسلم قال:
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ }
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ }
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ }
{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ }
{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }
فنحن أحق أن نتأدب في دعائه وخطابه.
وأما إذا كنا في مقام الإخبار عنه قلنا: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد
أن محمداً رسول الله) وقلنا: محمد رسول الله وخاتم النبيين، فنخبر عنه
باسمه كما أخبر الله سبحانه لما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم
{ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ }
{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً }