من كتاب الفوائد لأبن القيم يرحمه الله
و أما العلائق فهي كل ما تعلق به القلب دون الله و رسوله من ملاذ الدنيا
و شهواتها و رئاستها وصحبة الناس والتعلق بهم , و لا سبيل له إلى
قطع هذه الأمور الثلاثة و رفضها إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى , و إلا
فقطعها عليه بدون تعلّقه بمطلوبه ممتنع . فان النفس لا تترك مألوفها
و محبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه آثر عندها منه . و كلما قوي
تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره . و كذا بالعكس و التعلق بالمطلوب
هو شدة الرغبة فيه . و ذلك على قدر معرفته به و شرفه وفضله
[93] حاجة الناس الى الرسول صلى الله عليه وسلم
لما كمل للرسول صلى الله عليه وسلم مقام الافتقار إلى الله سبحانه أحوج
الخلائق كلهم إليه في الدنيا و الآخرة . أما حاجتهم إليه في الدنيا فأشد من
حاجتهم إلى الطعام و الشراب و النفس الذي به حياة أبدانهم . و أما
حاجتهم إليه في الآخرة فإنهم يستشفعون بالرسل الى الله حتى يريحوهم
من ضيق مقامهم . فكلهم يتأخر عن الشفاعة فيشفع لهم , و هو الذي
يستفتح لهم باب الجنة . في صحيح مسلم كتاب الإيمان حديث
عن أنس بن مالك عن رسول الله أنه قال :
( آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن :
من أنت , فأقول محمد . فيقول : لك أمرت لا أفتح لأحد قبلك )
[94] من علامات السعادة والفلاح
من علامات السعادة و الفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه
و رحمته . و كلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره . و كلما زيد في
عمره نقص من حرصه . و كلما زيد في ماله زيد في سخائه و بذله .
و كلما زيد في قدره و جاهه زيد في قربه من الناس و قضاء حوائجهم
و التواضع لهم .وعلامات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره و
تيهه , و كلما زيد في عمل زيد في فخره و احتقاره للناس و حسن ظنه
بنفسه , و كلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه . و هذه الأمور
ابتلاء من الله و امتحان يبتلي بها عباده فيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام
و كذلك الكرامات امتحان و ابتلاء , كالملك و السلطان و المال ..
قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس :
{ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ }
فالنعم ابتلاء من الله وامتحان يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور.
كما أن المحن بلوى منه سبحانه, فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب,
{ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ *
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ...}
أي ليس كل ما وسعت عليه وأكرمته ونعمته يكون ذلك إكراما مني له ,
و لا كل من ضيّقت عليه رزقه و ابتليته يكون ذلك إهانة مني له .
( أي ليس الأمر كما زعم لا في هذا و لا في هذا فان الله تعالى يعطي المال
من يحب ومن لا يحب و يضيق على من يحب ومن لا يحب , و إنما المدار
في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين إذا كان غنيّا بأن يشكر الله
على ذلك وان كان فقيرا بأن يصبر أنظر تفسير ابن كثير 4\509) ..
[95] الأعمال درجات وأساسها الإيمان
من أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه و إحكامه وشدة الاعتناء به. فان
علو البنيان على قدر توثيق الأساس و إحكامه . فالأعمال و الدرجات
بنيان وأساسها الأيمان , و متى كان الأساس وثيقا حمل البنيان واعتلى
عليه . و إذا تهدم شيء من البنيان سهل تداركه, و إذا كان الأساس غير
وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت , و إذا تهدم شيء من الأساس سقط
البنيان أو كاد . فالعارف همّته تصحيح الأساس و إحكامه , و الجاهل
يرفع في البناء من غير أساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط .
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ
أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ }
فالأساس لبناء الأعمال كالقوة لبدن الإنسان , فإذا كانت القوة قوية حملت
البدن و دفعت عنه كثيرا من الآفات , و إذا كانت القوة ضعيفة ضعف
حملها للبدن وكانت الآفات إليه أسرع شيء, فاحمل بنيانك على قوة
أساس الإيمان , فإذا تشعث شيء من أعالي البناء و سطحه كان
تداركه أسهل عليك من خراب الأساس .
صحة المعرفة بالله و أمره و أسمائه و صفاته . و الثاني : تجريد الانقياد
له و لرسوله دون ما سواه , فهذا أوثق أساس أسس العبد عليه بنيانه ,
و بحسبه يعتلي البنيان ما شاء . فاحكم الأساس , و احفظ القوة , و دم
على الحمية , و استفرغ إذا زاد بك الخلط , و القصد القصد و قد بلغت
المراد , و إلا فما دامت القوة ضعيفة والمادة الفاسدة موجودة
فاقر السلام على الحياة فإنها قد آذنتك بسرعة التوديع
فإذا كمل البناء فبيضه بحسن الخلق و الإحسان إلى الناس , ثم حطه
بسور من الحذر, لا يقتحمه عدو, و لا تبدو منه العورة , ثم أرخ الستور
على أبوابه , ثم أقفل الباب الأعظم بالسكوت عما تخشى عاقبته , ثم ركب
له مفتاحا من ذكر الله به تفتحه و تغلقه , فان فتحت فتحت بالمفتاح وان
أغلقت الباب أغلقته به , فتكون حينئذ قد بنيت حصنا تحصنت فيه من
أعدائك إذا طاف به العدو لم يجد منه مدخلا فييأس منك. ثم تعاهد بناء
الحصن كل وقت , فان العدو إذا لم يطمع في الدخول من الباب نقّب عليك
النقوب من بعيد بمعاول الذنوب, فان أهملت أمره وصل إليك النقب , فإذا
العدو معك في داخل الحصن فيصعب عليك اخراجه ,
و تكون معه على ثلاث خلال :
إما أم يغلبك على الحصن , و يستولي عليه , و إما أن يساكنك فيه ,
و أما أن يشغلك بمقابلته عن تمام مصلحتك , و تعود إلى سد النقب
و إذا دخل نقبه إليك نالك منه ثلاث آفات :
إفساد الحصن , و الإغارة على حواصله و ذخائره , و دلالة السراق من
بني جنسه على عورته . فلا تزال تبتلي منه بغارة بعد غارة حتى يضعفوا
قواك و يوهنوا عزمك فتتخلى عن الحصن و تخلي بينهم و بينه .و هذه
حال أكثر النفوس مع هذا العدو, و لهذا تراهم يسخطون ربهم برضا
أنفسهم , بل برضا مخلوق مثلهم لا يملك لهم ضرا و لا نفعا , و يضيعون
كسب الدين بكسب الأموال, و يهلكون أنفسهم بما لا يبقى لهم ,
و يحرصون على الدنيا وقد أدبرت عنهم , و يزهدون في الآخرة
وقد هجمت عليهم , و يخالفون ربهم بإتباع أهوائهم , و يتكلون
على الحياة و لا يذكرون الموت , و يذكرون شهواتهم و حظوظهم
و ينسون ما عهد الله إليهم , و يهتمون بما ضمنه الله لهم و لا يهتمون
بما أمرهم به , و يفرحون بالدنيا و يحزنون على فوات حظهم منها
و لا يحزنون على فوات الجنة و ما فيها و لا يفرحون بالإيمان فرحهم
بالدرهم و الدينار , و يفسدون حقهم بباطلهم و هداهم بضلالهم
و معروفهم بمنكرهم , و يلبسون إيمانهم بظنونهم , و يخلطون حلالهم
بحرامهم, ويترددون في حيرة آبائهم وأفكارهم , و يتركون هدى الله
الذي أهداه إليهم . و من العجب أن هذا العدو يستعمل صاحب
الحصن في هدم حصنه بيديه .