خلق الله جل وعلا آدم عليه السلام وشرَّفه وكرَّمه، وأمر الملائكة
بالسجود له، ولكن إبليس تكبر وبغى، وحسده على هذه المنزلة؛
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ
إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ
قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }
حسد عدو الله إبليس لا آدم عليه السلام ما أعطاه من الكرامة،
وقال: أنا ناريٌّ وهذا طينيٌّ
(تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير.
أول ما عصي الله بالحسد، وظهر ذلك من إبليس
ومن شدة حسد إبليس أنه لما تبين مقت الله له وغضبه عليه، أراد أن
يغوي بني آدم ليشاركوه المقت والغضب، وقد ذكر الله حال إبليس هذا،
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ
وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }
الحاسد شبيه بإبليس، وهو في الحقيقة من أتباعه؛ لأنَّه يطلب ما
يحبه الشيطان من فساد الناس، وزوال نعم الله عنهم، كما أنَّ إبليس
حسد آدم لشرفه وفضله، وأبى أن يسجد له حسدًا، فالحاسد
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا
وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ
إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ
فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِين
َ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
فإن آدم- عليه السلام - لما بعث إلى أولاده، كانوا مسلمين مطيعين،
ولم يحدث بينهم اختلاف في الدين، إلى أن قتل قابيل هابيل؛ بسبب الحسد والبغى
{ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ
إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا
يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ }
كان يعقوب قد كلف بهما؛ لموت أمهما، وزاد في المراعاة لهما، فذلك
سبب حسدهم لهما، وكان شديد الحبِّ ليوسف، فكان الحسد له أكثر،
ثم رأى الرؤيا فصار الحسد له أشد
بيَّن الله تعالى أنَّ أهل الكتاب الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم
حسدوه على ما آتاه الله من فضله، حتى إنهم زعموا أنَّ كفار مكة أهدى
من المؤمنين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم،
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ
فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا }
ومع كفرهم فإنهم يودون لو يرتد المسلمون عن دينهم حسدًا وحقدًا،
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا
مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ْ}
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طرائق الكفار من أهل الكتاب،
ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه
من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم، وفضل نبيهم
أكرم الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولكن كفار قريش
حسدوه على هذا الفضل، وظنوا أنَّ النبوة مبنية على مقاييسهم الدنيوية
المختلة، وقد ذكر الله تعالى ذلك عنهم ووبخهم على سوء فهمهم،
{ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم
ٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا
وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }
{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ }
من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسده، وما يعلنون
من مطاعنهم فيه، وقولهم: هلا اختير عليه غيره في النبوة
المنافقون يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر والعداوة، وتكاد قلوبهم
تشقق حسدًا وغيظًا وحقدًا،
{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا
وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }
وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين، وهو أنه إذا أصاب
المؤمنين خصب ونصر وتأييد، وكثروا وعز أنصارهم؛ ساء ذلك
المنافقين، وإن أصاب المسلمين سنة أي جدب، أو أديل عليهم
الأعداء لما لله تعالى في ذلك من الحكمة كما جرى يوم أحد،
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ }
أيعتقد المنافقون أنَّ الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين، بل سيوضح
أمرهم، ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر، وقد أنزل الله تعالى في ذلك
سورة براءة، فبيَّن فيها فضائحهم، وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على
نفاقهم، ولهذا كانت تسمى الفاضحة، والأضغان: جمع ضغن، وهو ما في
النفوس من الحسد، والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره