فإن الذي يدل على اعتبار كمال الحب مع كمال الذل هو أن أصل التأله: التعبد
التعبد آخر مراتب الحب، يقال: عبده الحب وتيمه إذا ملكه، وذلك لمحبوبه اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والعبادة تجمع كمال المحبة وكمال الذل، فالعابد محب خاضع، بخلاف
من يحب من لا يخضع له، بل يحبه ليتوسل به إلى محبوب آخر، وبخلاف
من يخضع لمن لا يحبه كما يخضع للظالم، فإن كلا من هذين
ومما يدل على أن هذا الحب ركن لابد منه
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ
وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ }
فأخبر أن من أحب من دون الله شيئاً كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ
من دون الله أنداداً، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحداً
من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية، بخلاف ند المحبة اهـ.
فإذا تبين هذا علم أن إفراد الله بالمحبة أصل العبادة، وهذا يستلزم أن
يكون الحب كله لله ولأجله وفيه .
ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية حقيقة حب الله وما يحب لله فيقول:
وكل ما أمر الله أن يحب ويعظم فإنما محبته وتعظيمه لله، فالله هو
المحبوب المعظم في المحبة والتعظيم، والمقصود المستقر الذي إليه
المنتهى، وأما ما سوى ذلك فيحب لأجل الله، أي لأجل محبة العبد لله
يحب ما أحبه الله، فمن تمام محبة الشيء محبة محبوب المحبوب
( أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ) .) اهـ.
المتابعة التي لابد فيها من الصدق والإخلاص. ومما يدل على أن أتباع
أمر المحبوب واجتناب نهيه لازم للمحبة
{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ }
فجعل الله تعالى أتباعهم لرسوله صلى الله عليه وسلم علامة على صدق
محبتهم لله، وجعل حبه لهم مشروطاً بأتباعهم له، فعلم بهذا استحالة
ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة للرسول
صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن المحبة مستلزمة للمتابعة .
فإن لم تتحقق المتابعة والطاعة يكون مدعي المحبة كاذباً في دعواه
محبة الله ويكون من الكافرين، وهذا المعنى هو ما قررته الآية التي تلي
{ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }
ومن العرض السابق يعلم أن للعبادة بمعنى التعبد شرطين هما:
معرفة المعبود سبحانه وتعالى فهو واضح جداً، فإنه حتى يتحقق الذل
والخضوع للمعبود فإنه يشترط أن تتحقق معرفته، والسبيل إلى ذلك
هو العلم بما للمعبود سبحانه من الأسماء والصفات ومعاني الربوبية فإنه
(لا تكون العبادة إلا مع المعرفة للمعبود) .
وهو معرفة دينه – فإنه واضح في البيان المتقدم في شرط المحبة – فإن
شرطها هو متابعة أوامر المعبود واجتناب نواهيه، وأوامره ونواهيه هي
دينه الذي أنزله، ولا يمكن أن تتحقق المتابعة لدينه إلا بعد معرفته، ولذلك
كانت معرفة دين الله شرطاً في التعبد.
وقد بين ابن القيم مراتب العلم بالله وبدينه بقوله:
فأما العلم به سبحانه فخمس مراتب: العلم بذاته، وصفاته، وأفعاله،
وأسمائه، وتنزيهه عما لا يليق به. والعلم بدينه مرتبتان: إحداهما:
دينه الأمري الشرعي وهو الصراط المستقيم الموصل إليه، والثانية:
دينه الجزائي المتضمن ثوابه وعقابه، وقد دخل في هذا العلم:
العلم بملائكته وكتبه ورسله) اهـ.
العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية
الذل لله بغاية المحبة له فإن آخر مراتب الحب هو التتيم وأوله العلاقة
لتعلق القلب بالمحبوب ثم الصبابة لانصباب القلب إليه ثم الغرام وهو
الحب اللازم للقلب ثم العشق وآخرها التتيم يقال تيم الله أي عبد الله
فالمتيم المعبد لمحبوبه ومن خضع لإنسان مع بعضه له لا يكون عابدا
له ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له كما قد يحب ولده
وصديقه ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى بل يجب أن يكون
الله أحب إلى العبد من كل شيء وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء
بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله وكل ما أحب لغير الله فمحبته
فاسدة وما عظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلا
{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا
أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا
حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
فجنس المحبة تكون لله ورسوله كالطاعة فإن الطاعة لله ورسوله
والإرضاء لله ورسوله والله ورسوله أحق أن يرضوه والإيتاء لله ورسوله
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ }
والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل وذل تام ومنشأ
هذين الأصلين .....هما مشاهدة المنة التي تورث المحبة ومطالعة عيب
النفس والعمل التي تورث الذل التام وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى
الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غرة وغيلة
وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته
ولابد في عبادته من أصلين أحدهما:
إخلاص الدين له، والثاني: موافقة أمره الذي بعث به رسله ولهذا كان
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله
صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئاً
{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا }
قال: أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال: إذا كان
العمل خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم
يقبل حتى يكون خالصاً صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون
ومن لا إخلاص له ولا متابعة فليس عمله موافقا للشرع: وليس هو
خالصا للمعبود كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله
ورسوله وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل
{ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ
فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ }
يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك ويحبون أن يحمدوا باتباع
السنة والإخلاص وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم
والفقر والعبادة عن الصراط المستقيم فإنهم يرتكبون البدع والضلالات
والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الاتباع
والإخلاص والعلم فهم أهل الغضب والضلال