وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
من أعظم ما تقرب به المتقربون لله ـ عز وجل ـ، طاعة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وقد أمر الله ـ تعالى ـ عباده المؤمنين
بطاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وألزمهم بها في مواضع كثيرة من
القرآن العظيم، وكذا على لسان نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهذا الأمر
معلوم من الدين بالضرورة، ولا يسع أحد إنكاره،
{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }
{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ }
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
{ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ }
" أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه،
فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر" .
" وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به
الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتعين على العباد الأخذ به واتباعه،
ولا تحل مخالفته، وأن نص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حُكم
الشيء كنص الله - تعالى ـ، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه،
ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " .
" نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
في ثلاثة وثلاثين موضعًا " ..
" أمر الله بطاعة رسوله في أكثر من ثلاثين موضعاً من القرآن،
وقَرَنَ طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته " ..
لا تعارض بين الكتاب والسنة :
من المستحيل وجود تعارض بين أوامر الله ـ عزّ وجلّ ـ في كتابه الكريم،
وبين أوامر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السُنَّة الصحيحة، لأن الله
أمرنا بطاعته ـ سبحانه ـ، وأمرنا كذلك بطاعة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ،
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }
وقد جاءت السنة النبوية لتبين مجمل الكتاب، وتوضح ما اشتمل عليه من
الأوامر، ولو ادَّعى أحد وجود تعارض بين الكتاب والسنة، لاستلزم الأمر
أن الله ـ عزّ وجل ـ قد أمرنا بالشيء ونقيضه، وهذا يستحيل في الشرع
الذي أنزله الله ـ تعالى ـ العليم الحكيم، وما كان من تعارض في الظاهر
بين الكتاب والسنة فقد أزال العلماء هذا التعارض، بالجمع بينهما،
أو بثبوت النسخ ، أو حمل المطلق على المقيد، أو العام على الخاص،
أو ضعف الحديث وعدم ثبوته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
" على أهل العلم طلب الدلالة من كتاب الله، فما لم يجدوه نصّا في كتاب
الله، طلبوه في سنة رسول الله، فإن وجدوه فما قبلوا عن رسول الله
فعن الله قبلوه، بما افترض من طاعته " .
شبهة: الاستغناء بالقرآن عن السنة :
لا يمكن الاستغناء بالقرآن الكريم عن سُنَّة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
بحال من الأحوال، بل لا يمكن أن يُفهم الكتاب بمعزل عن السُنَة، وأي
دعوة لفصل أحدهما عن الآخر إنما هي دعوة ضلال وانحراف، وهي
في الحقيقة دعوة إلى هدم الدين، وتقويض أركانه والقضاء عليه من
أساسه، واعتقاد البعض أن القرآن يكفيهم ضلال، ورد للقرآن الذي أمرنا
صراحة بطاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل ما أمر ونهى،
{ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ }
وعن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه
عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
( لا أَلْفِيَنَّ أحدَكم مُتَّكِئًا على أَرِيكته يأتِيه أمرٌ مِمَّا أمرْتُ به
أو نَهيتُ عنه فيقول: لا أدري، ما وجدْنا في كتابِ الله اتبعناه )
وعن المقداد بن معد يكرب ـ رضي الله عنه ـ
عن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أنه قال:
( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان
علي أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه
وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإنَّ ما حرَّمَ رسول الله
ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما حرم الله )
وهذا الحديث من أعلام نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، إذ ظهر في الأمة
أناس ينكرون بعض السُنَّة أو كلها بدعوى الاستغناء عنها بالقرآن الكريم
" وفي الحديث دليل على أن لا حاجة بالحديث أن يُعْرَضَ على الكتاب،
وأنه مهما ثبت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان حجة بنفسه،
فأما ما رواه بعضهم أنه قال: " إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب
الله، فإن وافقَه فخُذوه، وإن خالفه فدعوه " فإنه حديث باطل لا أصل له،
وقد حكى زكريا الساجي عن يحيى بن معين أنه قال:
هذا حديث وضعته الزنادقة ".
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له من الأوامر والنواهي التي ليس لها ذِكر
في كتاب الله ـ عزّ وجلّ ـ الكثير، وهي أكثر من أن تحصى، والمسلم
مأمور بطاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها كالتزامه بطاعة الله، ومنها
تشريع صلاة الاستسقاء، والجنازة،
وصلاة العيدين، وسجود الشكر،
زكاة الفطر وغيرها من زكوات،
تحريم الذهب والفضة على الرجال،
والشراب وتحريم الأكل في آنية الذهب والفضة،
الأمر بحضور الجماعات، وتغسيل الميت، وتكفينه ودفنه، وغير ذلك
من أمور جاءت بها السُنَّة النبوية ولم ترِدْ في كتاب الله ـ عز وجل ـ .
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال:
( لعن الله الْوَاشِمَات (التي تقوم بعمل الوشم) وَالْمُسْتَوْشِمَات (التي تطلب
الوشم)، وَالنَّامِصَاتِ (التي تفعله) وَالمُتَنَمِّصَاتِ (التي تطلب النماص)،
وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ (التي تَبْرُد مَا بَيْن أسنانها) المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ الله، فبلغ
ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته
فقالت: ما حديث بلغني عنك، أنك لعنتَ الواشماتِ والمستوشمات،
والمتنمصاتِ، والمتفلجاتِ للحُسْنِ المغيِّراتِ خلقَ الله، فقال عبد الله:
وما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهو
في كتاب الله؟، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف
فما وجدته، فقال: إن كنت قرأتيه لقد وجدتيه،
{ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ }
قالت: بلى، قال: فإنّه قد نهى عنه )
عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
لم يُفَّرق ربنا ـ عز وجل ـ بين طاعته سبحانه وبين طاعة نبيه ـ
صلى الله عليه وسلم ـ، بل جعل طاعة نبيه طاعة له سبحانه،
{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }
وغالب الآيات القرآنية قرنت بين طاعته ـ سبحانه ـ وطاعة نبيه،
وما سنَّه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما ليس فيه نص من
كتاب الله فإنما سنَّه بأمر الله ووحيه .
" وما سنَّ رسول الله فيما ليس لله فيه حكم، فبحكم الله سنَّه " .
فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم من أن يصدر عنه
{ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ }
دلالة مباشرة على عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع أقواله
وأفعاله، وكل ما أمر به، أو نهى عنه، ووجه ذلك أن من وجبت طاعته
طاعة مطلقة بلا قيد ولا شرط وجب أن يكون معصوماً، وما كان الله
ليأمرنا أمرا مطلقا باتباع كل ما جاء بالسُنَّة النبوية، إلا لعلمه ـ سبحانه ـ
بعصمة صاحب هذه السُنة ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، في جَدِّه
وضحكه، ورضاه وغضبه، وصحته ومرضه، وفي حلّه وترحاله،
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }
" واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
من الشيطان وكفايته منه، لا في جسمه بأنواع الأذى - كالجنون
والإغماء -، ولا على خاطره بالوساوس " ..
ستظل سُنَّة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مدى الأجيال والقرون،
وحتى يرث الله الأرض ومن عليها نبراساً للمسلمين، تضيء لهم حياتهم،
ولئن انتقل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جوار ربه، فإن الله قد
حفظ لنا كتابه وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فهما طريق الهداية
والسعادة في الدنيا والآخرة،
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
( ترَكْتُ فيكم أَمرين، لَن تضلوا ما تمسَّكتُمْ بِهِما:
" والحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام " ..
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المعظمين لرسولنا
- صلى الله عليه وسلم ـ وسنته، المتبعين لها،
وأن يسقينا من يده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبدا .