من كتاب الفوائد لأبن القيم يرحمه الله
[141] (فصل) في بيان سبب الخذلان
وسبب الخذلان عدم صلاحية المحل وأهليته وقبوله للنعمة بحيث لو وافته
النعم لقال هذا لي وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه
{ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي }
أي على علم علمه عندي استحق به ذلك وأستوجبه واستأهله
أي على فضل عندي إني كنت أهله ومستحقا له إذ أعطيته
يقول على خير علمه الله عندي.
وذكر عبد الله بن الحارث بن نوفل سليمان بن داود فيما أوتي من الملك
{ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ }
ولم يقل هذا من كرامتي ثم ذكر قارون وقوله:
{ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي }
يعني أن سليمان رأى ما أوتيته من فضل الله عليه ومنته وأنه ابتلى به
شكره وقارون رأى ذلك من نفسه واستحقاقه
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي }
أي أنا أهله وحقيق به فاختصاصي به كاختصاص المالك بملكه.والمؤمن
يري ذلك ملكا لربه وفضلا منه من به على عبده من غير استحقاق منه
بل صدقة تصدق بها على عبده وله أن لا يتصدق بها فلو منعه إياها لم
يكن قد منعه شيئا هو له يستحقه عليه فإذا لم يشهد ذلك رأي فيه أهلا
ومستحقا فأعجبه نفسه وطغت بالنعمة وعلت بها واستطالت على غيرها
فكان حظها منها الفرح والفخر
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9)
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ }
فذمه باليأس والكفر عند الامتحان بالبلاء وبالفرح والفخر عند الابتلاء
بالنعماء واستبدل بحمد الله وشكره والثناء عليه إذ كشف عنه البلاء
لو أنه قال اذهب الله السيئات عني برحمته ومنه لما ذم على ذلك بل كان
محمودا عليه ولكنه غفل عن المنعم بكشفها ونسب الذهاب إليها فرح وافتخر.
فإذا علم الله سبحانه هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه
وتخليه عنه فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ *
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ }
فاخبر سبحانه أن محلهم غير قابل لنعمته ومع عدم القبول ففيهم مانع
آخر يمنع وصولها إليهم وهو توليهم وإعراضهم إذا عرفوها وتحققوها.
ومما ينبغي أن يعلم أن أسباب الخذلان من بقاء النفس على ما خلقت عليه
في الأصل وإهمالها وتخليتها فأسباب الخذلان منها وفيها وأسباب التوفيق
من جعل الله سبحانه لها قابلة للنعمة فأسباب التوفيق منه ومن فضله
وهو الخالق لهذه وهذه كما خلق أجزاء الأرض هذه قابلة للنبات وهذه
غير قابلة له وخلق الشجر هذه تقبل الثمرة وهذه لا تقبلها وخلق النحلة
قابلة لأن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه و الزنبور غير قابل لذلك
وخلق الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره وحجته وإجلاله وتعظيمه
وتوحيده ونصيحة عباده وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك بل لضده
وهو الحكيم العليم قال معناه شيخ الإسلام بحر العلوم مفتي الفرق
أبو العباس احمد بن تيمية رحمه الله .