ودليل ذلك: السمع، والعقل أما السمع:
{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ }
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
{ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي
إلا أن يمنع منه دليل شرعي وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين
أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان فقال:
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ
ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
{ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا }
الآية وأما العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد
خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت
الظاهر الشرعي، وذلك بإثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة على
حقيقة الإثبات وتنزيه الخالق عن مشابهة الخلق له في تلك الصفات مع
قطع الطمع عن إدراك الكيفية – ... – وبهذا يعلم أن معاني نصوص
الصفات مفهومة، وأن إدراك كيفية الصفات شيء ممتنع. فما يتبادر
إلى الذهن من المعاني الشرعية هو المراد بالظاهر.وأما ترك التحريف،
فالمراد به عدم التسلط على نصوص الصفات بصرف معانيها المتبادرة
بأصل الوضع أو السياق إلى معاني أخرى غير متبادرة، وهذا الذي يسميه
المسألة الأولى دواعي حمل النصوص على ظاهرها
وهذه الدواعي هي أدلة كلية تبين أن حمل نصوص الصفات على ظاهرها
متعين، وهو أمر لا خفاء فيه ولا غموض، ويمكن حصرها...
الدليل الأول: وصف القرآن بالبيان والهدى:
إذا كان السامع متمكناً من الفهم، وكان خطاب المتكلم بيناً واضحاً، فهم
المخاطب مراد المتكلم بكلامه. وقد وصف الله تعالى كتابه بأنه تبيان
{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ }
{ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ
وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ }
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
فاتضح من هذه النصوص – وغيرها كثير – أن كتاب الله تعالى فيه بيان
الحق للناس، وأنه قد أنزل بلسان عربي مبين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم
– مبين للناس هذا الكتاب بلسان قومه، فهذا يفيد أن نصوص الصفات
مما بينه الله تعالى للناس، وهي كثيرة جداً وتتناول كل الصفات مثل العلم
والقدرة والسمع والبصر والكلام والحياة والإرادة والاستواء واليدين
والوجه والغضب والرضا، ولا يوجد مع هذا دليل واحد يفيد أن هذه
النصوص مراد بها خلاف ظاهرها. فإخلاء المتكلم كلامه من قرينة تفيد
أن ظاهره غير مراد ينافي بيانه وإرشاده، مع ملاحظة الأمور الآتية:
الأمر الأول: إن الله تعالى أعلم بما ينزل .
الأمر الثاني: إنه لو كان الظاهر غير مراد لجاء البيان بذلك – إذ تأخير
البيان عن وقت الحاجة ممتنع، ووقت الحاجة هو وقت الخطاب، وعلى
فرض جواز تأخره إلى ما بعد ذلك فلا يجوز تأخيره بعد موت النبي
صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه على كثرة النصوص الواردة بذكر
الصفات لم يأت نص واحد يصرفها عن ظاهرها. فعلم بهذه الأمور
مجتمعة أن خطاب الشرع في صفات رب العالمين يجب حمله على
ظاهره إذ المخاطب أعلم بما ينزل وكلامه هدى وبيان وقد أخلاه عما
الدليل الثاني: وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم – المبين للكتاب –
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
وهو الهادي إلى صراط مستقيم
{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
قد اشتملت سنته على ذكر الصفات لله تعالى، إما تصريحاً بالقول وإما
إقراراً، وكل من القول والإقرار إما أن يكون قد ورد مثله في القرآن
أو لم يرد، وكل من ذلك إما صفات فعلية أو ذاتية.
فمثال قوله صلى الله عليه وسلم في الصفات وهي مذكورة في القرآن:
صفة اليدين، وصفة الاستواء، فالأولى صفة ذاتية، والثانية فعلية ....
ومثال قوله صلى الله عليه وسلم في صفات لم يأت ذكرها في القرآن:
الضحك والأصابع. ومثال إقراره صلى الله عليه وسلم – لبعض الصفات،
وهي مذكورة في القرآن: الاستواء، كما هو في حديث الجارية، لما سألها
أين الله؟ قالت في السماء، فقال لسيدها
ومثال إقراره صلى الله عليه وسلم لبعض الصفات، ولم يأت ذكرها
في القرآن: الأصابع، كحديث الحبر اليهودي،... وقد يفسر الرسول
صلى الله عليه وسلم – صفة قد لا يفهم من نص القرآن أنها صفة لله
الدليل الثالث: فهم الصحابة لها أن ظاهرها مراد.....
الدليل الرابع: إجماع الأئمة على أن ظاهرها مراد.
سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد عن هذه
الأحاديث التي فيها الرؤية وغير ذلك، فقالوا: أمضها بلا كيف) وفي رواية
أنه سألهم (... عن الأحاديث التي فيها الصفات فكلهم قال: أمروها كما
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام
هذه الأحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض
وهي عندنا حق لا نشك فيه...
ولا تفسر هذه الأحاديث إلا مثل ما جاءت ولا نردها...
وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر
ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به
المجاز، إذ لا سبيل إلى أتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك،
وإنما يوجه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع
من ذلك ما يجب له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء
من العبارات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود
مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة
مفهوم، وهو العلو والارتفاع على شيء.. إلخ) اهـ .
وأقوال الأئمة كثيرة في هذا الباب يصعب حصرها، وفيما ذكر الكفاية
وبالله التوفيق.فهذا الذي تقدم يدل دلالة قاطعة على أن ما جاء في
نصوص الصفات حق على ظاهره المراد شرعاً، فيجب إثباتها بلا تمثيل،
وتنزيه الله عن مشابهة خلقه فيها بلا تعطيل، ذلك أن ذكرها في القرآن
بلا قرينة تصرفها عن ظاهرها ثم تأكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذلك في سنته قولاً وإقراراً بذكرها كما وردت في القرآن، بل يذكر صفات
أخرى لم ترد فيه وهو الذي قال الله فيه:
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }
يدل دلالة قاطعة أن نصوص الصفات يجب إجراؤها على ظاهرها،
إذ المأمور ببيان الدين لم يصرف عن ظاهرها – وهذا أمر بين.