تهدف شريعتنا الغراء إلى الرقي بالمجتمع المسلم إلى معالي الأمور
وسمو الأخلاق، وتنأى بأفراده عن كل خلق سيئ أو عملٍ مشين،
وتريد أن يكون المجتمع متآلفاً متحابًّا، تربط بين عناصره الأخوة
والمودة، وبين يدينا توجيه نبوي يعالج ظاهرة اجتماعية مهمة،
لو بقيت على وضعها لأفسدت المجتمع.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إياكم والجلوس بالطرقات)، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من
مجالسنا بدٌّ نتحدث فيها، فقال: (إذ أبيتم إلا المجلس، فأعطوا
الطريق حقه)، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال:
(غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف
وفي رواية أبي هريرة عند أبي داود،
في حوار رائع له دلالاته بين نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم وبين
أصحابه حول حقوق الطريق وآدابه، ينهى صلى الله عليه وسلم
( إياكم والجلوس بالطرقات )؛
لأن الجلوس بها يعرّض للفتنة وإيذاء الآخرين والاطلاع على الأحوال
الخاصة للناس، وضياع الأوقات بما لا فائدة منه، فيستوضح الصحابة
( ما لنا من مجالسنا بدٌّ نتحدث فيها )
فيرشد ويوجه إلى الوضع السليم:
( إذ أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه )،
( غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وإرشاد السبيل )،
فما أحوجنا إلى الامتثال لتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم
المراد بغضّ البصر كفه ومنعه من الاسترسال في التأمل والنظر، والأمر
بغض البصر يشترك فيه الرجال والنساء على حد سواء،
{ قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّواْ مِن أَبصَارِهِم }
{ وَقُل لِلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ }
وذلك لأن إطلاق البصر يجلب عذاب القلب وألمه،
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"تعمد النظر يورث القلب علاقة يتعذب بها الإنسان، وإن قويت حتى
صارت غراماً وعشقاً زاد العذاب الأليم، سواء قدر أنه قادر على المحبوب
أو عاجز عنه، فإن كان عاجزاً فهو في عذاب أليم من الحزن والهم والغم،
وإن كان قادراً فهو في عذاب أليم من خوف فراقه ومن السعي في تأليفه
وأسباب رضاه"، وأصل ذلك ومبدؤه من النظر، فلو أنه غض بصره
لارتاحات نفسه وارتاح قلبه" .
والشرع المطهر لم يغفل ما قد يقع من الناس بدون قصد منهم، بل أمر من
نظر إلى امرأة أجنبية بدون قصد منه أن يصرف بصره عنها ولا يتمادى،
قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؟
ومعنى نظر الفجأة كما ذكر الإمام النووي:
"أن يقع بصره على الأجنبية من غير قصد فلا إثم عليه في أول ذلك،
ويجب عليه أن يصرف بصره في الحال، فإن صرف في الحال
فلا إثم عليه، وإن استدام النظر أثم".
من حقوق الطريق كف الأذى وعدم إيذاء الناس في أبدانهم أو أعراضهم،
سواء باللسان أو اليد أو الاعتداء بالنظر في بيوت الآخرين دون إذنهم،
ويشمل النهي السباب والشتائم وأذية الناس في أعراضهم والاستهزاء
والسخرية، وكذا اليد فإن أذيتها لا تنحصر في الضرب والقتل،
بل تتعداها إلى الوشاية بالناس، والسعي للإضرار بهم.
كل ما يؤذي سالك الطريق ويضايقه، من إلقاء حجر قد يجرحه أو
قاذورات تلوثه، أو تلوث ظل شجرة يستفيد الناس من ظلها أو يأكلون
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( اتّقوا اللَّعَّانَيْنِ: الذي يَتَخَلّى في طريق النّاسِ، أو في ظِلِّهم )
من حقوق الطريق رد السلام، والسنة أن يسلم الماشي على القاعد،
والراكب على الماشي، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير، ورد
من يلقى عليهم السلام التحية فرض كفاية عليهم، فإذا كانوا أكثر من
واحد، سواء كانوا في الطريق أو في غيرها، ورد بعضهم السلام على
من سلم عليهم، سقط الواجب عن البعض الآخر، وإن كان واحدا تعين
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ،
وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ )
( يسلَّم الصغير على الكبير ).
ورد السلام حق من حقوق المسلم على أخيه،
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:
(حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وتشميت العاطس،
وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز)
وقد قصّر في هذا الباب خلق كثيرون، واقتصر سلامهم على المعرفة، فمن
عرفوه سلموا عليه أو ردوا عليه سلامه، ومن لم يعرفوه لم يعيروه
اهتماماً، وهذا خلاف ما جاء به التوجيه النبوي.
الحق الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هذا باب عظيم الشأن والقدر، به كانت أمتنا خير الأمم،
{ كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ
وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ }
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
"من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها"
"ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله
{ كَانُواْ لا يَتَنَاهَونَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ }
وبترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحل العقاب، فقد قام أبو بكر الصديق
رضي الله عنه خطيبا في الناس فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وقال:
"أيها الناس: إنكم تقرءون هذه الآية
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهتَدَيتُم...}
وإنكم تضعونها على غير موضعها،
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب )
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مقصوراً على جهة معينة
كرجال الحسبة، بل هو واجب على كل أحد، كلٌ بحسب استطاعته، ولكن
ينبغي مراعاة التدرج في الإنكار، فلا يتحول المرء إلى مرتبة حتى يعجز
عن التي قبلها، فلا ينكر بقلبه من يستطع الإنكار بلسانه، وهكذا.ومن
كانت له ولاية فإنكاره يكون بأعلى مراتب الإنكار، فرب الأسرة هو السيد
المطاع في البيت، وتغييره يكون بيده فهو قادر على إزالة المنكر بيده،
ويجب أن يستحضر المُنكِرُ قاعدة المفاسد والمصالح، وأن لا يبادر إلى
الإنكار إلا إذا علم أن مصلحته راجحة على مفسدته، ومتى علم رجحان
المفسدة وجب عليه الكف حتى لا يفتح باب شر وإفساد، وإذا عجز عن
المرتبة الأولى والثانية فلا يغفل عن قلبه ويمر عليه المنكر دون إنكار
بالقلب وظهور آثار ذلك على صفحات وجهه.
الحق الخامس: إرشاد السبيل
المقصود هداية السائل عن الطريق، ويكون ذلك بإرشاد السائل
وهدايته سواءً كان ضالاً أو أعمى،
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك صدقة،