عالمية الإسلام ( 02 - 02 )
عالمية الإسلام ووجوب إيمان البشرية به،
كتب النبي إلى ملوك عصره كنموذج(2)
ها نحن في الجزء الثاني من المقالة مع كتب -النبي - صلى الله عليه وسلم –
المباركة، نتأمّل في مضامينها، ونقتطف من حكمتها ما شاء الله تعالى،
مشرئبَّةً أعناقنا إلى أجوبة الملوك عليها، فهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
الصادق الأمين، زعيم أهل الله وخاصته، وأولئك ملوك الأقوام الأخرى،
الذين لم يألفوا من يدعوهم أو يأمرهم، أصحاب الفخامة في ذاك العصر،
وأغلبهم أهل عُجبٍ وكبرٍ، فكيف سيَرُدّون؟ وكيف سيستقبلون دعوة
الإسلام؟ ومبعوث النبي – عليه الصلاة والسلام - ؟
وللإجابة عن هذا السؤال يتعيّن بحث أجوبتهم،
ودراسة ردودهم على مبعوثي الرسول الكريم، إذ لا شكّ أن هؤلاء الملوك
كانت لهم مواقفٌ مختلفةٌ راجعةٌ إلى معتقداتهم، وإلى الظروف التي كانت
تحكم تحرّكاتهم وتُوجّه سياساتهم، على أن ما ينبغي معرفته، هو أنّ
هؤلاء الملوك، قبل أن يكونوا ملوكاً، هم بشرٌ يعرض لهم ما يعرض لسائر
البشر، فإما يذعنوا للحق فيكونوا من المهتدين، أو يُعرضوا عنه فيكونوا
من المحرومين، مما يدلّ عليه حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ،
وهي الدلالة التي نعرض فيها لمواقف الملوك المخاطَبين، مواقف
تراوحت ما بين الإذعان La Soumission، والاستجابة، وبين
موقف النجاشي ملك الحبشة :
تظافرت الأدلة على استجابة ملك الحبشة لدعوة الرسول – صلى الله عليه وسلم-
، ومن هذه الأدلة أن النّجاشي لما تسلَّم كتاب رسول الله وضعه على
عينيه، ونزل من سريره على الأرض تواضعاً وهيبةً منه، ثم أسلم وشهد
لو كنتُ أستطيع أن آتيه لأتيته.
وقد أكدت ذلك رسالته التي بعثها إلى الرسول الكريم والتي مما ورد فيها :
" أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرتَ من أمر عيسى
فورب السماء والأرض أن عيسى لا يزيد على ما ذكرت..
فأشهد أنك رسول الله صادقاً وقد بايعتُك "
وهذه شجاعةٌ منقطة النّظير، وكيف أن النجاشي تواضع للحقّ وآمن به
دونما استشارة، أو خوفٍ على ذهاب مُلكه وعداوة بطانته. وإنه لابتلاء
نفسيٌّ كبير، في إيمان ملِكٍ بدينٍ غير دين شعبه، ومثل هذه نفوسٍ
يحسنُ إيمانها، ويتقوىّ إسلامها ويكون لها أجرٌ عظيمٌ عند ربها،
موقف المقوقس عظيم القبط :
اتَسم موقف المقوقس من دعوة الرسول الكريم بنوعٍ من المرونة
والاعتدال، فلم يؤمن ولم يصدر منه ما يدلّ على حقدٍ أو كراهيّةٍ لدين
الإسلام، وهذا ما تومئ إليه مجموعةٌ من القرائن، منها أنه لما تسلّم
كتاب الرسول الكريم، ضمّه إلى صدره وجعله في حُقّ عاجٍ – مخلب فيلٍ –
وأكرم مبعوث النبي – صلى الله عليه وسلم، وبعث إليه بهدايا وجاريتين،
إحداهما ماريةٌ القبطيّة التي اتخذها رسول الله لنفسه ورزق منها
فتعامَل مع الموقف بدبلوماسيّة كبيرة، وأدبٍ جمٍّ، وعلم أن النبيَّ
– صلى الله عليه وسلم – يريد صلاحه، وينصحه في سبيل الله، لا يُريدُ
منه جزاءاً ولا شُكوراً. وللمؤرخين اختلافٌ، في كون عظيم القبط قد أسلم
بعدها أم لا، والكلام في ذلك كثيرٌ وليس المقام مقامَ بسطهِ وبيانه.
تميز موقف هرقل من رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم- بالتذبذب
والتردّد، واكتنفه الغموض، فهو وإن أبدى اهتماماً بدخول الإسلام، إلا
أن شخصيته الضعيفة أمام أهل مشورته جعلته لا يجرؤ على اتخاذ موقفٍ
حاسمٍ فيقرر الانتساب لدين الإسلام، بعكس النجاشي الذي أبان عن
شجاعةٍ منقطعة النظير، فأسلم دون تردد أو استشارة.
مواقفه الدينية كانت تحكمها المصلحة السياسية ، فهو لم يكن يرضى من
الدين إلا بقدر ما تسمح به السياسة، وبقدر ما تشير عليه بِطانته، وهذا ما
يدلّ عليه تصرّفه حين استلم كتاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، إذ تفيد
المصادر أنه لما قرأ الكتاب جمع عظماء الروم
" هل لكم في الفلاح والرشد ويثبت لكم ملككم وتبايعوا هذا النبي ؟
فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غُلّقت، فلما رأى
نفرتهم وأَيِس من الإيمان قال : ردّوهم علي، وقال : إني قلتُ مقالتي
آنفاً أختبر بها شدّتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له "
وعددٌ من المرويات التفصيلية أخبرتنا بهذا التردد، وكيف أنه جسَّ نبض
مستشاريه، فلما رأى منهم رفضاً وتعنّتاً خاف على كرسيه ومُلكه، فخسر آخرته،
وفي هذا يقول الإمام النووي رحمه الله :
" لا عذر له في هذا، لأنه قد عرف صدق النبي – صلى الله عليه وسلم –
وإنما شحَّ في الملك، ورغب في الرياسة، فآثرها على الإسلام.. ولو أراد
الله هدايته لوفّقه كما وفّق النجاشي، وما زالت عنه الرياسة " (2).
كل القرائن تفيد أن موقف كسرى من دعوة الرسول الكريم، اتّسم بكثير
من الغلظة وبوافر من الوقاحة والتهوّر، ويبدو أن ذلك راجعٌ إلى
مجوسيّته التي تأبى له إلا أن يظل على ولائه للنار، ففي الدنيا إليها يتوجّه
بالعبادة، وفي الآخرة هو يصلاها مذموماً مدحوراً، فجاء أنه لما قرأ كتاب
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شقّه وقال :
" يكتب إلي بهذا وهو عبدي " ،
فلم يُعجبه أن يدعوه إلى الإسلام ولم يعجبه أن يقول له ذلك، بل أغضبه
أن يبدأ الرسول الكريم بقوله : " من محمد رسول الله "، وهو ما جعله
ينفجر غيظاً وحنَقاً واقتاد مبعوث النبي – صلى الله عليه وسلم – للعقاب.
بعد استعراض مواقف الملوك المعنيين، والتي تراوحت ما بين الاستجابة
والتردد والرفض، إلى حقيقةٍ هامّة وبليغةٍ، هي أن التبليغ عن الله وظيفة
المرسلين الأولى، بقول الله تعالى مخاطباً نبيه :
{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ }
وأن الإنسان في هذه الدنيا حين البلاغ لا يخرج موقفه عن هذه الثلاثة،
فمن مستجيب إلى متردد إلى رافض.
أما ثمرة هذا التبليغ فهي مرهونة باختيار الإنسان وتوفيق الله له
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ }
نعم، قد ينشأ عن هذا الصدود الأسى والحزن في نفس الداعية، وهو ما
حصل للرسول – صلى الله عليه وسلم – في مواقف دعويةٍ عديدةٍ، فكان
أن تداركته العناية الربانية لتخفف عنه وتطمئنه بمثل قوله عز وجل :
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ
فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }
تلك هي الحقيقة التي ينبغي أن يعيها العاملون للإسلام، ويعيها كلّ مسلمٍ
لأنها جزءٌ من فقه تديّنه.أما العبر المباركة من هذه الرسائل الكريمة،
فسنتناولها تفصيلاً في الجزء الأخير من هذه السلسلة.
1- البداية والنهاية لابن كثير، الجزء الثالث، الصفحة : 105.
2- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، للنووي.