رَبِحَ البَيْعُ أَبَا يَحْيَى
صهيب بن سنان الرومي ـ رضي الله عنه ـ،
كان من السابقين إلى الإسلام، ومن المستضعفين الأوائل الذين نالهم من
مشركي قريش الأذى الشديد، والبلاء العظيم، الذي لا يتحمله إلا أصحاب
العقيدة، فكان من الثابتين على الحق، وقد كَنَّاه النبي
ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأبي يحيى .
" صهيب بن سنان بن مالك أبو يحيى الرومي، وأصله من اليمن من
قاسط، وكان أبوه ـ أو عمه ـ عاملا لكسرى على الأبلة (بلدة بالعراق)،
وكانت منازلهم على دجلة عند الموصل ـ وقيل: على الفرات -، فأغارت
على بلادهم الروم، فأسرته وهو صغير، فأقام عندهم حينا، ثم اشترته
بنو كلب، فحملوه إلى مكة، فابتاعه عبد الله بن جدعان فأعتقه، وأقام
بمكة حينا، فلما بُعِثَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آمن به قديما
هو وعمار بن ياسر في يوم واحد بعد بضعة وثلاثين رجلا، وكان
من المستضعفين الذين يُعَذَّبون في الله ـ عز وجل ـ " .
وقال عنه الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء:
" كان من كبار السابقين البدريين، حدث عنه بنوه حبيب وزياد وحمزة،
وسعيد بن المسيب، وكعب الحبر، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وآخرون،
روى أحاديث معدودة، خرجوا له في الكتب، وكان فاضلا وافر الحرمة،
له عدة أولاد، ولما طُعِنَ عمر استنابه على الصلاة بالمسلمين إلى أن
يتفق أهل الشورى على إمام، وكان موصوفا بالكرم والسماحة رضي الله عنه
.. مات بالمدينة في شوال سنة ثمان وثلاثين، وكان ممن اعتزل الفتنة
وأقبل على شأنه ـ رضي الله عنه ـ " ..
قال عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ:
" لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم ـ فيها، فقلت له: ما تريد؟، فقال لي: وما تريد أنت؟،
فقلت: أردت الدخول إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأسمع كلامه،
فقال: فأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا،
ثم مكثنا يومنا حتى أمسينا، ثم خرجنا مستخفين " ..
" أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ،
وأبو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار، وأمه سمية " .
وفي منتصف شهر ربيع الأول ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما زال
مقيما بقباء بعد هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، عزم صهيب
على الهجرة فرارا بدينه، وأسوة برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وبمن هاجر من الصحابة، وكان هو وعلي بن أبي طالب
ـ رضي الله عنهما ـ آخر من هاجر ..
وكانت هجرته ـ رضي الله عنه ـ صورة من صور الهجرة التي تجلّت فيها
معاني التضحية بالمال وبذله رخيصاً في سبيل الله، فحين خرج مهاجرا
تبعه نفر من المشركين ليمنعوه فأدركوه، فوقف واستخرج نباله من كنانته
" يا معشر قريش تعلمون أني من أرماكم، والله لا تصلون إليَّ حتى
أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي بيدي منه شيء " ..
فقالوا له ـ كما روى الحاكم في مستدركه ـ :
" أتيتنا صعلوكا فكثُر مالك عندنا، ثم تريد أن تخرج بنفسك ومالك؟، والله
أرأيتم إن تركت مالي لكم هل تخلون سبيلي؟، قالوا: نعم، فدلّهم
على الموضع الذي خبّأ فيه ماله بمكّة "،
فسمحوا له بإتمام هجرته إلى المدينة المنورة، بعد أن ضحّى بكل ما يملك
بلغ خبر صهيب ـ رضي الله عنه ـ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن
فقال له ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}
وفي رواية أخرى قال صهيب ـ رضي الله عنه ـ:
( وخرجت حتى قدمت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
بقِباء قبل أن يتحول منها، فلما رآني قال: يا أبا يحيى! ربح البيع،
ثلاثا، فقلت: يا رسول الله ما سبقني إليك أحد،
وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام )
وقال عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه
ـ في تفسيره لقول الله تعالى:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
" نزلت في صهيب بن سنان وأصحابه، اشترى نفسه بماله من أهل مكة " .
وقال ابن حجر عن هذا الحديث في ترجمة صهيب الرومي
" وروى ذلك ابن سعد وابن أبي خيثمة من طريق حماد عن على بن زيد
عن سعيد بن المسيب في سبب نزول الآية، ورواه ابن سعد أيضاً من وجه
أخر عن أبي عثمان النهدي، وراه الكلبي في تفسيره عن أبي صالح
عن ابن عباس، وله طرق أخرى، ورواه ابن عدي من حديث أنس،
والطبراني من حديث أم هانئ " .
لم يتخلف صهيب ـ رضي الله عنه ـ منذ أسلم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم
ـ، في أي مشهد من المشاهد،
فقد روى الطبراني عنه ـ رضي الله عنه ـ أنه قال:
" لم يشهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشهدا قط إلا كنت حاضره،
ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضرها، ولم يسر سرية إلا كنت حاضرها،
ولا غزا غزاة إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خافوا أمامهم قط
إلا كنت أمامهم، ولا ما وراءهم إلا كنت وراءهم، وما جعلت رسول الله ـ
صلى الله عليه وسلم ـ بيني وبين العدو قط حتى توفي رسول الله
ـ صلى الله عليه وسلم ـ " .
وصهيب - رضي الله عنه - لم يكثر من رواية الحديث عن النبي
- صلى الله عليه وسلم-، فقد روى نحواً من ثلاثين حديثاً، لم يخرج
البخاري منها شيئاً، وإنما أخرج له مسلم نحو ثلاثة أحاديث، وروى عنه
من الصحابة: عبد الله بن عمر، وجابر وغيرهم، ومن التابعين:
كعب الأحبار، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأسلم مولى عمر،
وفي قصة إسلام وإيذاء وهجرة صهيب ـ رضي الله عنه ـ دليل على أن
المؤمن مُبْتَلى، وأن المال عزيز، وبه قوام حياة الإنسان، ولكن الدين أعز
وأغلى .. وفيها كذلك فضل صهيب ـ رضي الله عنه ـ، وأن من ترك شيئاً
فقد قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: