حج مبرور و ذنبٌ مغفور .. و لكن ماذا بعد ؟
اليوم أو غدا يبدأ ضيوف الحمن في العودة الى أوطانهم وأهليهم بعد
أن لبوا نداء ربهم وجميعهم يتمنى أن يكون حجه مبرورا وللحج المبرور
أمارة وعلامة ولقبوله منارة وشامة
سئل الحسن البصري رحمه الله:
فقال: «أن تعود زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة».
لقد سارع قوم ممن أكرمهم الله ومن عليهم سارعوا الى أداء ما افترضه
الله عليهم من حج بيته الحرام يدفعهم الطمع في ثواب الله والرغبة فيما
أعده الله لحجاج بيته من عظيم الأجر ووافر الثواب:
( من حج فلم يرفث ولم يفسق
رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).
وأي فضل وأي جزاء للحاج أعظم من تكفير سيئاته وستر عيوبه واقالة
عثراته وأي هدف أسمى وغاية أنبل من غفران الذنوب والتجاوز عن
السيئات!! وان الرب ليدنو من الحجيج ويقول لملائكته:
( أشهدكم أني قد غفرت لهم )
فهنيئا للمخلصين في حجهم هنيئا لهم المغفرة
والرحمة من الرب الرحيم الكريم.
ان فرح المسلم بقبول عمله ينبغي أن يكون أعظم من فرحه بالقيام بالعمل
كما كان السلف الصالح رحمهم الله وذلك لأنهم قرأوا في كتاب ربهم:
{ انما يتقبل الله من المتقين }
فمن تقبل عمله كان داخلا في عباده المتقين الذين وعدهم ربهم بأصناف
الكرامات وجزيل الهبات.ومن لم يتقبل منه عمله فما ذاك الا دخن
في اخلاصه وايمانه حجبه عن أن يكون من المتقين الذين لا يتقبل الله
لقد ذكر بعض السلف أمارات ودلائل وعلامات
تشير الى قبول الله العمل ورضاه عنه
ومن أعظم هذه الأمارات والدلائل أن يرجع الحاج بعد حجه بحال غير
الذي ذهب بها فيرجع وقد زاد ايمانه واشتد حرصه على التزام أوامر ربه
والبعد عن مناهيه يرجع بقلب منيب لله خاشع راغب فيما عند مولاه يرجع
بنفس تواقة للعمل الصالح مشتاقة لفعل الطاعات ومزاولة القربات
ومتلهفة للتزود من الصالحات يرجع بجوارح مسارعة لفعل الخيرات
وعلى هذا فالحاج المقبول منه حجه ان شاء الله لا تجده الا حريصا على
الصلوات مع الجماعات سباقا لأعمال البر والاحسان مراقبا لربه في جميع
أحواله وسكناته يعمل جاهدا في أن لا يراه ربه الا حيث أمره سبحانه
وتعالى بعيدا عن حياة اللهو والبطالة بعيدا عن الغفلة والتسويف.
حسن التأسي بالنبي فكانت تلك الأيام الخاليات موسما يزداد فيه المؤمن
ارتباطا بهدي رسوله ترى الحاج يتحرى ويسأل ويتتبع ولا يحيد حتى
يكون حجه كله وفق الهدي النبوي الكريم فما أجمل أن يجعل العبد المسلم
هذا الاقتفاء وذاك الاتباع منهجه في حياته كلها في عبادته ومعاملته في
مظهره ومخبره في حضره وسفره ونومه ويقظته وسلمه وحربه في
أحواله كلها يكون قريبا من سنة نبيه متعلقا بها.
أن استشعار ثواب العمل هو أعظم محركٍ نحو العمل فما تعنى من تعنى
وفارق الأهل والأحباب الا رغبة فيما عند ربه من ثوابٍ.ان استشعار ثواب
العمل يعلي الهمة ويطرد الكسل ويربي في المسلم الحرص على الأعمال
الصالحات والمداومة عليها والتزامها طيلة الحياة.
تربية الضمير وتزكية النفس على الاخلاص والمراقبة والعفاف:
{ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ }
يترك العبد في نسكه الفسوق واللمم تعظيما لربه وخوفا من نقصان أجره.
أن الاجتماع على الطاعة من أعظم ما يعين على الخير يرى الحاج بعينه
نفوسا خاشعة وأعينا دامعة وابتهالاتٍ صادقة يرى الكل مشغولا بربه فهذا
يتلو وآخر يدعو وثالثٌ يصلي ورابعٌ يتصدق فتدفعه هذه المناظر الى أن
وفيما يلي وقفات مع بعض نصائح أهل العلم للعائدين
من الحج لمواصلة مسيرة الطاعات.. فتابع معنا.
لقد تكلم أهل العلم باستفاضة عما يجب عمله بعد العودة من رحلة الحج
وأداء مناسكه وأسهبو في اسداء النصح الى العائدين من الحج وتحذيرهم
من التكاسل عن مواصلة الطاعات وهذه لمحات ووقفات مع نصائح
اذا نوى الحجاج الانصراف الى أوطانهم تذكروا الآباء والأمهات
والزوجات والأبناء والاخوان فيحملون معهم الهدايا ومن كان موسعا
عليه حمل أنواعا من البضائع للتجارة ولا حرج على الحاج في ذلك
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ
فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ }
في الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة
وان القصد الى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم
الاخلاص المفترض عليه روى الدارقطني في سننه عن أبي أمامة التيمي.
اني رجل أكرى في هذا الوجه وان ناسا يقولون: انه لا حج لك.
فقال ابن عمر: جاء رجل الى الرسول فسأله مثل هذا الذي سألتني فسكت
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ.}
ان الأخذ من الدنيا بقدر لا يؤثر في الاخلاص ولكن أخي:
كيف وجدت مشاعرك وأنت تودع تلك المعالم الطاهرة؟
أما رأيت أخي ان النبي أمر الناس أن لا ينصرفوا عن مكة حتى يطوفوا
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
( كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله:
لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ).
هكذا أمر النبي أصحابه وهم يودعون البيت المعظم أن يطوفوا طوافهم
الأخير ليخرجوا من مكة وقد امتلأت أعينهم وقلوبهم بعظمة ذلك
وهو يودع البيت الحرام ويتهيأ لمغادرة تلك الربوع الطاهرة؟
لا شك أن وداع تلك المعالم الطاهرة شديد على النفس وخاصة تلك
النفوس التي أخلصت لمولاها تعالى وهي تؤدي مناسك الحج.
هل تذكر وهو يودع البيت المعظم أنه كان في أيام طاعات ومواسم قربات
وما اسعدها من لحظات فهل تنقطع الطاعات اذا رحل الى وطنه؟
وهو يذكر مثوله بين يدي مولاه سبحانه وتعالى عند بيته المعظم ويذكر
يوم عرفة وهيبته وأيام منى وعظمتها.
كيف يسوغ لك اذا أن تتبدل أحوالك بغيرها فداوم على الطاعات وافتح
صفحة جديدة في حياتك لتنال صفات أهل الحج المبرور
الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة.
ان ذلك يظهر بآخره فان رجع خيرا مما كان عرف أنه مبرور.
ثم هنالك شيء آخر أخي الحاج:
وأنت تودع البيت الحرام اسأل الله أن لا يكون هذا آخر العهد ببيته
فان وصل الطاعات من أسباب الثبات كما أن وصل المعاصي من أسباب
دوامك على الطاعات هو مفتاح فلاحك يوم العرض الأكبر
( أي العمل أحب الى الله؟) قال: {أدومه وان قل )
ان من علامات الصلاح المداومة على الطاعات وان قلت وهذه أخي
درة نفسية أتحفك بها وهي: عليك أخي أن تتشبث بعمل صالح فتلزمه
وتداوم عليه ولا تستحقر ذلك عسى الله تعالى أن يكتب لك حسن الختام
ويحفظ لك بركة حجك.لا تكن من أولئك الذين لا يتذكرون الطاعات الا في
مواسم معينة فان انصرفت هذه المواسم عادوا الى حالهم الأول
فقد سأل علقمة عائشة رضي الله عنها فقال:
( يا أم المؤمنين كيف كان عمل رسول الله هل كان يخص شيئا
من الأيام؟ قالت: (لا كان عمله ديمة وأيكم يستطيع
يحكي محمد بن القاسم عن عائشة رضي الله عنها:
أنها كانت اذا عملت العمل لزمته.
لابد لك من الصبر على الطاعات وأنت تواصل مشوار حياتك الجديدة
واصبر أيضا عن المعاصي فان الصبر على الطاعات وعن المعاصي
الصبر صبران فالصبر على المصيبة حسن وأفضل
ولا تكن من أولئك الذين قال فيهم الامام ابن القيم:
فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم وشهواتهم وأقل الناس صبرا
في طاعة ربهم فيصبر على البذل في طاعة الشيطان أتم الصبر ولا يصبر
على البذل في طاعة الله في أيسر شيء ويصبر على تحمل المشاق لهوى
نفسه في مرضاة عدوه ولا يصبر على أدنى المشاق في مرضاة ربه.
فهو أصبر شيء على التبذل في طاعة الشيطان ومراد النفس وأعجز
شيء عن الصبر على ذلك في الله وهذا أعظم اللؤم ولا يكون صاحبه
كريما عند الله ولا يقوم مع أهل الكرم اذا نودي بهم يوم القيامة على
رؤؤس الأشهاد ليعلم أهل الجمع من أولى بالكرم اليوم أين المتقون.
ان عاقبة الصابرين هي الجنة:
{ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ
وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}
{ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ }
صبروا على ما أمروا به وصبروا عما نهوا عنه.
النفس بطبعها تحب الكسل والراحة فلا تعطها مناها حتى لا يجد الشيطان
اذا نظر اليك الشيطان فرآك مداوما في طاعة الله فبغاك وبغاك فرآك
مداوما ملك ورفضك واذا كنت مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك.
وأنت قادم من حجك فانك مازلت قريبا عهدك بالطاعات فاذا واصلت
في ذلك المشوار رجى لك الخير فبادر أخي نشاطك قبل أن يدخل الفتور
والكسل وان أنت أخي ركنت الى الكسل تمكنت منك النفس الأمارة بالسوء
وسيطر عليك شيطانك فيذهب حجك أدراج الرياح عن الحريث بن قيس
قال: (اذا أردت أمرا من الخير فلا تؤخره للغد واذا كنت في أمر الدنيا
فتوخ واذا كنت في الصلاة فقال لك الشيطان أنك ترائى فزدها طولا.
المبادرة المبادرة ولا تقولن سوف أو سأفعل
وهذا ثمامة بن بجاد السلمي أوصى قومه فقال:
أي قوم أنذرتكم سوف أعمل سوف أصلي سوف أصوم.
جاهد نفسك ولا تضعف كما جاهدتها أيام كنت بتلك الأماكن الطاهرة
{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت:69].
{فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)}.
لا يفوتنك أن تكثر من دعاء الله تعالى أن يعينك على الثبات في الطاعات
فأكثر أخي من الابتهال والتوجه الى الله أن يسدد خطواتك وأنت تسلك
سبيل دينه الحق وقد كان النبي الأكرم يكثر من سؤال ربه أن يثبته على دينه
سئلت أم سلمة رضي الله عنها عن أكثر دعائه فقالت:
( كان أكثر دعائه : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقيل له
في ذلك؟فقال: {انه ليس آدمي الا قلبه بين أصبعين من أصابع الله
فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ)
[رواه الترمذي وأحمد وابن أبي شيبة
سلسلة الأحاديث الصحيحة:2091].
( يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك )
[رواه ابن ماجه: صحيح ابن ماجه: الألباني:166].
اذا كان هذا النبي يسأل ربه أن يثبته على دينه وقد رأى من آيات ربه
ما يكفي في أن يثبت قلبه على دين الله تعالى فكيف بنا نحن؟!!
وها أنت أخي في زمان كثرت فيه الفتن وأسباب الانحراف في زمان
لا تجد فيه أعوانا على الحق بل اذا رأوا منك التزاما بالدين سخروا منك
وأسمعوك كل قبيح ولكن المؤمن على ميعاد من ربه فلا يلتفت الى ذلك.
فلابد منك أخي أن تكثر دعاء الله أن يثبتك على دينه وليكن دعاؤك بقلب
مخلص عرف لذة الطاعات واستأنس بالقربات ولا تدع دعاء غافل
لا يدرك ما يقول فانك أخي الحاج تحتاج الى الثبات على طاعة الله تعالى
حتى تقطف ثمار حجك وتذوق بركته.
تنظر الى نفسك نظرة أهل الغرور الذين اذا عملوا القليل من الطاعات
رأوا أنفسهم كأنهم أفضل أهل الأرض.
انظر الى نفسك دائما بعين التقصير فانك مهما عملت من الصالحات
فلن تؤدي شكر الله تعالى في أقل نعمه عليك واذا أردت أخي أن تعرف
حال الصالحين بعد فعلهم للصالحات فتأمل معي هذه المواقف لتعلم
أن عباد الله المخلصين يقرون دائما بالتقصير.
فهذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه بعد توليه الخلافة
أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم...
بلى والله انه لخيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه.
ويحكي لنا محمد بن عطاء قال:
كنت جالسا مع أبي بكر فرأى طائرا فقال: (طوبى لك يا طائر
تأكل في هذا الشجر ثم تبعر ثم لا تكون شيئا وليس عليك حساب
وددت أني مكانك فقلت له: أتقول هذا وأنت صديق رسول الله ؟!!.
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:
لو نادى منادٍ يوم القيامة: أيها الناس أدخلوا الجنة الا واحدا
وهذا رسولنا يعلمنا كيف تكون عبادة الله
فكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فاذا سألوه قال:
( أفلا أكون عبدا شكورا؟!! )
( والله اني لأستغفر الله وأتوب اليه في اليوم أكثر من سبعين مرة )
أرأيت أخي اذا كان النبي وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو
يقوم بعبادة مولاه تعالى بهذه الصورة أيحق لواحد بعد هذا أن يقول:
اني عبدت الله حق العبادة؟!!.
أخي: أهضم نفسك حقها تستقم لك :
وان نظرت اليها بنظرة الكمال قصرت بك، حتى يدخلك النقص في أداء
الواجبات.أدلك على علاج عجيب للكسل عن مواظبة الطاعات فانك ان
أخذته كان له الأثر العجيب أتدري ما هو هذا العلاج؟!انه الموت فتذكر
أخي أنك راحل عن هذه الدنيا الى دار يجزى فيها المحسنون والمسيئون
فان أردت أن تدوم لك بركة حجك فذكر نفسك بالموت فانها حينئذ تبادر
الى الطاعات وتنشط للعبادات وهذا النبي يعلم ابن عمر رضي الله عنهما
هذا العلاج العجيب فيأخذ بمنكبه وهو يقول له:
( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) .
اذا أمسيت فلا تنتظر الصباح واذا أصبحت فلا تنتظر المساء
وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك
معنى الحديث لا تركن الى الدنيا ولا تتخذها وطنا ولا تحدث نفسك
بالبقاء فيها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه.
المبادرة المبادرة فانما هي الأنفاس لو قد حسبت انقطعت عنكم أعمالكم
التي تقربون بها الى الله عز وجل رحم الله امرءا نظر لنفسه وبكى على
ذنوبه ثم قرأ هذه الآية: انما نعد لهم عدا ثم يبكي ويقول: أخي العدد:
خروج نفسك آخر العدد فراق أهلك آخر العدد دخولك في قبرك.
وهذا عمر بن عبدالعزيز يقول:
نغص هذا الموت على أهل الدنيا ما هم فيه من غضارة الدنيا وزينتها
فبينما هم فيها كذلك وعلى ذلك أتاهم حياض الموت فاخترمهم فالويل
والحسرة هنالك لمن لم يحذر الموت ويذكره في الرخاء فيقدم لنفسه خيرا
يجده بعدما فارق الدنيا وأهلها.
المداومة على العمل الصالح بعد الحج
ان نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى
{ وما بكمْ منْ نعْمةٍ فمن الله }
أجلها وأعظمها الهداية لدين الاسلام والتوفيق للطاعة والاعانة على
أدائها والقيام بها ومن أجل الطاعات وأفـضل القربات حج بيت الله الحرام
حيث يقوم الحجاج بقصد بيت الله العتيق والتنقل بين تلك المشاعر
المقدسة وأداء تلك المناسك العظيمة راجين ما عند الله من الرحمة
والرضوان والعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان
( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه )
أما من لم يتيسر له الحج فقد وفق باذن الله للاجتهاد في أيام العشر
الفاضلة وتعرض لنفحات المولى جل وعلا في أيامها المباركة حيث
الصلاة والصيام والتكبير وتلاوة القرآن.
انه ليس شيءٌ أحب الى المؤمن الصادق من أن يبذل ما يملك ويترك مـا
يحـب من أجل نيل رضا ربه عنه ومغفرته ذنوبه ومحو زلاته واقالـة
عثراته لـذا فقـد تـرك الزوجة والأولاد وهجر المال والـدار متجشـما
الصعاب متحملا المتاعب في سبيل الوصول الى أشرف بقعـة وأطهر
مكـان ليتنقل بين شعائرها بقلب منيب وجل خـائف أمله في الله لا ينقطع
ورجـاؤه في رحمة أرحم الراحمين لا يخيب.
ومع هذا البذل والعطاء وتلبية النداء فان الخسارة العظمى والفادحة
الكبرى لمن رجع من حجه على غير طائل خرج من حجه خائبا محروما
لم يظفر من حجه الا الذهاب والاياب والجهد والمشقة والنصب والتعب
والعنـاء نعوذ بالله من الخذلان لذا فقد كان السلف الصالح يجتهدون في
اتمام العمل واتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وهؤلاء
هم المؤمنون الذين قال الله فيهم:
{ والذين يؤْتون ما آتوْا وقلوبهمْ وجلةٌ
( والذين يؤْتون ما آتوْا وقلوبهمْ وجلةٌ ) هو الذي يسرق ويزني
ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟قال: (لا يا بنت أبي بكر
ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف الله عز وجل ).
( وهم يخافون ألا يقبل منهم )
ولذلك لما قيل لابن عمر رضي الله عنهما ما أكثر الحاج قال:
بل ما أكثر الركـب وأقل الحاج
كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز وجل يقول
{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين }
لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب الي من الدنيا
{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين }
وقال عبدالعزيز بن أبي رواد حاكيا حال السلف رحمهم الله:
أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فاذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا؟.
وكتب عمر بن عبد العزيز الى رجل
أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبل غيرها ولا يرحم الا بها
ولا يثيب الا عليها فان الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل.
وان من الخسارة كذلك أن يلوث الحاج ما عاشه فيما مضى من لـذة
المناجاة ونعيم الطاعة بالمعاصي والذنوب وأن ينقض تلك العهـود الـتي
قطعها على نفسه ألا يعود الى الخطأ والزلل مرة أخرى واذا كـان فعل
السـيئة قبيحا والوقوع قي الخطيئة جرما فان ذلك يعظـم ويقـبح اذا
كـان بعـد طاعة من أجل الطاعات ألا وهي حج بيت الله الحرام.
ان الخـير كـل الخير والطهر كل الطهر أن يحج أحدنا وترى أثـار حجـه
عليه بـلزوم العهد القديم والمسلك القويم الذي كان عليه في الحـج وليكـن
خروجـنا من هـذه الطاعـات خـروج الغانم الكاسـب المغتبط بما وفقه الله
لطاعته ولزوم عهده فالمؤمن الصادق يخـرج من طاعـة الا ويدخـل في
أخرى محياه ومماته لله رب العالمين
قـال الحسـن البصري رحمه الله:
آية الحج المبرور: أن يرجع زاهدا في الدنيـا راغـبا في الآخرة
وان مـن علامـة قـبول الطاعـة أن توصـل بالطاعـة بعدها وعلامة ردها
أن توصل بمعصية فما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة
ولذلك كان الامام أحمد رحمه الله يقول:
الـلهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك.
وكان عامة دعاء ابراهيم بن أدهـم رحمـه الله:
الـلهم انقلني من ذل المعصية الى عز الطاعة
وقد تضعف النفس في الاستمرار على العمل الصالح والمداومة عـليه،
ولمعالجـة هـذا الـداء لا بد من العزيمة الصادقة على لزوم العمل
والمداومـة عـليه أيـا كـانت الظروف والأحـوال وهذا يستلزم نبذ العجـز
والكسل والدعـة والخمـول واذا كـان الانسان يكره الموت الـذي فيـه
انقطاع حياته ويكره الهرم الذي فيه انهيار شبابه وقوته ألا يـدرك أن
هناك أمرا لـربما كـان أشـد مـنهما وهو العجز والكسل وضـعف الهمة
والتراخي والتسويف وركوب بحر التمني مما يقعده عن كل عمل
صالح ويثبطه عن كل بر وطاعة.وقـد كـانت حياة السلف رحمهم الله
معمورة بطاعة الله حتى يلقوا ربهم وأقوالهم وأحوالهم في ذلك كثيرة.
لا خـير في الحيـاة الا لـتائب أو رجـلٍ يعمـل في الدرجـات ومن عداهما فـخاسر
كـانوا يستحيون من الله أن يكونـوا اليـوم على مثل حالهم بالأمس
يريد: أنهم كانوا لا يرضـون كـل يوم الا بالزيادة من عمل الخير
وفي الترمذي عنه صـلى الله عليه وسـلم أنـه سئل:
قال: من طال عمره وحسن عمله قيل: فأي الناس شر؟
قال: من طال عمره وساء عمله ).