ألقى فضيلة الشيخ الدكتور علي بن عبد الرحمن الحذيفي - يحفظه الله
خطبتي الجمعة من المسجد النبوى بالمدينة المنورة بعنوان :
الحذر من الاغترار بالدنيا
والتي تحدَّث فيها عن التفكُّر في قِصر مدَّة الدنيا وحياة المرء فيها،
وعدم اغتِراره بها؛ بل يعمل الصالحات، ويبتعد عن المعاصِي والمخالفات؛
ليسعَد في الدنيا والآخرة.
الحمد لله العزيز الغفَّار،
يُقلِّبُ الليلَ على النهار ويُقلِّبُ النهارَ على الليل وكل شيءٍ عنده بمِقدار،
أحمدُ ربي وأشكرُه على نعمِه وفضلِه،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحدُ القهَّار،
وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المُصطفَى المُختار،
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آله وصحبِه الأخيار.
فاتقوا الله تعالى وأطيعُوه؛ فإن طاعتَه أقومُ وأقوَى،
وتزوَّدوا لآخرتِكم فإن خيرَ الزاد التقوى.
تفكَّروا في مُدَّة الدنيا القصيرة، وزينتها الحقيرة، وتقلُّب أحوالها الكثيرة؛
تُدرِكوا قدرَها، وتعلَموا سرَّها. فمن وثِقَ بها فهو مغرور، ومن ركَنَ إليها فهو مثبُور.
فقِصَرُ مُدَّة الدنيا بقِصَر عُمر الإنسان فيها، وعُمرُ الفرد يبدأُ بساعات،
ويتبَعُ الساعات ساعات، وبعدَها الأيام، وبعد الأيام الشهور، وبعد الشهور العام،
وبعد العام أعوام، ثم ينقضِي عُمر الإنسان على التمام،
ولا يدرِي ماذا يجري بعد موتِه من الأمورِ العِظام.
وهل عُمرُ مَن بعدَك - أيها الإنسان - عُمرٌ لك؟!
فعُمرُ المخلوق لحظةٌ في عُمر الأجيال، بل الدنيا متاع؛
{ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ }
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا }
وأخبرَنا ربُّنا عن قِصَر مُدَّة لُبث الناس في قُبورهم إلى بعثِهم للحساب،
بأن هذه المُدَّة الطويلة كساعة
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ }
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ }
{ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ
فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ }
فما عُمرُك - أيها الإنسان - في ساعة؟! وما نصيبُك من هذه الساعة؟!
فطُوبَى لمن فعلَ الأعمال الصالحات، وهجَرَ المُحرَّمات،
ففازَ برِضوان الله في نعيم الجنات خالدًا في اللذَّات، مع المتقين بجوارِ ربِّ العالمين.
وويلٌ لمن اتَّبعَ الشهوات، وأضاعَ الصلوات والواجِبات،
فهلَكَ في الدَّرَكات خالدًا في العذابِ مع الكافرين.
يا من أطغَتْه صحَّتُه فعصَى .. يا من أفسَدَه فراغُه فلهَى ..
يا من فتَنَه مالُه فتردَّى .. يا من اتَّبعَ هواهُ فهوَى ..
يا من غرَّه شبابُه فنسِيَ البِلَى .. يا من جرَّأَه على ربِّه فُسحةُ الأجل ..
وبلوغ الأمل .. حتى اختطفَه الموتُ .. فأنَّى له أن يرجِعَ إلى الدنيا!
( اذكُروا ذِكرَ هاذِمِ اللذَّات؛ فإنه ما ذُكِر في كثيرٍ إلا قلَّله، ولا في قليلٍ إلا كثَّرَه )
رواه الترمذي والنسائي وابن حبَّان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
أما آن لك - أيها الغافلُ المُعرِضُ العاصِي - أن تتوبَ إلى ربِّك وتُنيب؟!
أما آن لك أن تستيقِظَ من هذه الغفلة المُطبِقة وتَستَجيب؟!
أما آنَ لك أن تعملَ الصالِحات، وتهجُر السيئات؟!
ألا تعتبِرُ بالقرون الخالية، والمساكِن الخاوِية .. كيف صارُوا بعد عينٍ أثرًا،
إن في إقبالِ عامٍ ويم وإدبارِ عامٍ ويمٍ عِبَرًا .. فيومٌ تُخلِّفُه، ويوم تستقبِلُه،
حتى ينتهِيَ الأجل، وينقطِعَ الأمل
{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى }
فاعمَل لدار الخُلد التي لا يفنَى نعيمُها ولا ينقُص ولا يَبيد
{ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }
{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ }
واتَّقوا النارَ التي لا يُفتَّرُ عن أهلها العذاب، بامتِثال أمر الله الأكيد،
{ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ }
{ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ
والذكرِ الحكيم، ونفعَنا بهديِ سيِّد المرسلين وقوله القويم،
أقولُ قولي هذا وأستغفِرُ الله لي وللمسلمين، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي يعلمُ السرَّ وأخفَى، قائمٌ على كل نفسٍ بما كسَبَت،
يُحصِي الأعمال ويجزِي عليها الجزاءَ الأوفَى،
أحمدُ ربي وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفِرُه،
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الأسماءُ الحُسنَى،
وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المُجتبَى،
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ،
وعلى آلهِ وصحبِه ذوِي الحلمِ والتُّقَى.
فاتَّقُوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى.
إن الله قد فتَحَ لكم أبوابَ الرحمة بما شرعَ لكم من فعلِ الخيرات وتركِ المُنكَرات،
فلا يُغلِق أحدٌ على نفسِه بابَ الرحمة بمُحاربَة الله بالذنوب
{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }
واغتنِم - أيها العبد - زمن العافية؛ فإن يومًا يمضِي لن يعودَ أبدًا.
فاستودِع أيامَك بما تقدِرُ عليه من الحسنات، واحفَظ صحيفتَك من السيئات.
عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما
قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
( نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ )
ومعنى ذلك: أن الصحةَ والفراغَ لا ينتفِعُ منهما بعضُ الناس،
فتمضِي بدون أعمالٍ صالِحة، والبعضُ - وهم القليلُ –
ينتفِعُون منها فيعمَلون فيها لآخرتهم، ويعمَلون فيها لحياتهم الباقية.
وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما -، قال:
قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
( كُن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابِرُ سبيل )
وكان ابن عُمر - رضي الله تعالى عنهما - يقول:
[ إذا أمسَيتَ فلا تنتظِر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظِر المساء،
وخُذ من صحَّتك لمرضِك، ومن حياتِك لموتِك ]
إن ربَّنا - تبارك وتعالى - أمرَكم بأمرٍ بدأَ فيه بنفسِه،
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:
( من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا )
فصلُّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين،
وأكثِرُوا من الصلاة والسلام عليه؛ فإن ذلك من أعظم القُرُبات،
ومن أكثرَ من الصلاة والسلام على سيِّد المُرسَلين - صلى الله عليه وسلم
فإنه يكونُ من أقرَب الناسِ منزلةً عنده يوم القيامة.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
اللهم وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم،
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين،
الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ،
وعن سائر أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين،
اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفر والكافرين،
والشركَ والمُشركين يا رب العالمين
اللهم دمِّر أعداءَك أعداءَ الدين.
اللهم انصُر كتابَك وسُنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -،
اللهم أظهِر هديَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في العالمين يا رب العالمين،
اللهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزُقنا اتِّباعَه،
وأرِنا الباطلَ باطلاً وارزُقنا اجتِنابَه، ولا تجعَله مُلتبِسًا علينا فنضِلَّ،
برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أحسِن عاقِبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم اغفِر لموتانا وموتَى المُسلمين،
اللهم اغفِر لموتانا وموتَى المُسلمين
اللهم نوِّر عليهم قبورَهم،
اللهم افسَح لهم فيها ونوِّرها عليهم يا رب العالمين، إنك أنت الرحمن الرحيم.
اللهم تولَّ أمرَ كل مسلمٍ ومسلمة،
اللهم تولَّ أمرَ كل مؤمنٍ ومؤمنَة، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم احفَظ الإسلام والمسلمين في كل مكان،
اللهم احفَظ الإسلام والمسلمين في كل مكان وكل زمانٍ يا رب العالمين،
اللهم انصُر المسلمين الذين حُورِبُوا في دينِك يا رب العالمين،
اللهم انصُر المسلمين يا ذا الجلال والإكرام،
اللهم عليك بأعداء الإسلام، إنك على كل شيء قدير.
اللهم احفَظ المسلمين في الشام،
اللهم احفَظ المسلمين في الشام،
اللهم احفَظهم من ظُلم الظالمين يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير،
اللهم احفَظ المسلمين في كل مكان، إنك على كل شيء قدير،
وألِّف بين قلوبِهم، وأصلِح ذاتَ بينهم،
اللهم واجمَع كلمتَهم على الحقِّ، إنك على كل شيء قدير، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق خادم الحرمين الشريفين،
اللهم وفِّق خادم الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضَى،
اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عمله في رِضاك،
اللهم وأعِنه على كل خيرٍ يا رب العالمين،
اللهم سدِّده ووفِّقه في كل أمورِه إنك على كل شيء قدير،
اللهم وفِّق بِطانتَه لما تحبُّ وترضَى،
اللهم وفِّق نائبَيه لما تحبُّ وترضَى يا رب العالمين،
اللهم وفِّقهما لما فيه الخيرُ للإسلام والمسلمين يا ذا الجلال والإكرام،
اللهم احفَظ بلادَنا من كل شرٍّ ومكروه،
اللهم احفَظ بلادَنا من كل شرٍّ ومكروه، إنك على كل شيء قدير،
واحفَظ اللهم بلادَ المسلمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أبطِل كيدَ أعداء الإسلام،
اللهم أبطِل خِططَ أعداء الإسلام التي يَكيدُون بها للإسلام يا رب العالمين.
{ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا
وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }
واذكُروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكُروه على نعمِه يزِدكم،
ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.