ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة للهجرة النبوية الشريفة
من كتاب البداية و النهاية لابن كثير يرحمه الله
غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وعلى اليمنى سليمان بن هشام
بن عبد الملك، وهما ابنا أمير المؤمنين هشام.
التقى عبد الله البطال وملك الروم المسمى فيهم قسطنطين، وهو
ابن هرقل الأول الذي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأسره البطال،
فأرسله إلى سليمان بن هشام، فسار به إلى أبيه.
عزل هشام عن إمرة مكة والمدينة والطائف إبراهيم بن هشام
بن إسماعيل، وولى عليها أخاه محمد بن هشام، فحج بالناس
وممن توفي فيها من الأعيان:
الفهري مولاهم أبو محمد المكي، أحد كبار التابعين الثقات الرفعاء، يقال:
سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود أعور أفطس أشل أعرج،
ثم عمي بعد ذلك.وكان ثقة فقيهاً عالماً كثير الحديث.
وقال أبو جعفر الباقر وغير واحد:
ما بقي أحد في زمانه أعلم بالمناسك منه، وزاد بعضهم وكان قد حج
سبعين حجة، وعمر مائة سنة، وكان في آخر عمره يفطر في رمضان
من الكبر والضعف، ويفدي عن إفطاره، ويتأول الآية:
{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }
وكان ينادي منادي بني أمية في أيام منى لا يفتي الناس في الحج إلا
ما رأيت فيمن لقيت أفقه منه.
مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عندهم.
كان في المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس
كان سعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم وعطاء هؤلاء أئمة الأمصار.
وقال عطاء إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أكن سمعته،
وقد سمعته قبل أن يولد، فأريه أني إنما سمعته الآن منه.
وفي رواية: أنا أحفظ منه له، فأريه أني لم أسمعه.
والجمهور على أنه مات في هذه السنة، رحمه الله تعالى والله أعلم.
فصل من أقوال عطاء بن أبي رباح
أسند أبو محمد عطاء بن أبي رباح، - واسم أبي رباح أسلم - عن عدد
كثير من الصحابة، منهم ابن عمرو، وابن عمرو، وعبد الله بن الزبير،
وأبو هريرة وزيد بن خالد الجهني، وأبو سعيد.وسمع من ابن عباس
التفسير وغيره، وروى عنه من التابعين عدة منهم: الزهري، وعمرو
بن دينار، وأبو الزبير، وقتادة، ويحيى بن كثير، ومالك بن دينار، وحبيب
بن أبي ثابت، والأعمش، وأيوب السختياني، وغيرهم من الأئمة
سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: من جلس مجلس ذكر كفر الله عنه بذلك
المجلس عشر مجالس من مجالس الباطل.
قلت لعطاء: ما مجلس الذكر؟ قال: مجالس الحلال والحرام، كيف تصلي،
كيف تصوم، كيف تنكح وتطلق وتبيع وتشتري.
حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، عن يحيى بن ربيعة
الصنعاني، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول في قوله تعالى:
{ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ }
قال: كانوا يقرضون الدراهم، قيل: كانوا يقصون منها ويقطعونها.
وقال الثوري: عن عبد الله بن الوليد - يعني الوصافي - قال: قلت لعطاء:
ما ترى في صاحب قلم إن هو كتب به عاش هو وعياله في سعة، وإن هو
تركه افتقر؟ قال: من الرأس؟
قال القسري لخالد: قال عطاء: قال العبد الصالح:
{ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ }
وقال: أفضل ما أتي العباد العقل عن الله وهو الدين.
وقال عطاء: ما قال العبد: يا رب، ثلاث مرات إلا نظر الله إليه، قال:
فذكرت ذلك للحسن فقال: أما تقرؤون القرآن:
{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا }
{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ }
الآيات [آل عمران: 195].
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل:
حدثنا أبو عبد الله السلمي، حدثنا ضمرة، عن عمر بن الورد، قال:
قال عطاء: إن استطعت أن تخلو بنفسك عشية عرفة فافعل.
وقال سعيد بن سلام البصري:
سمعت أبا حنيفة النعمان، يقول: لقيت عطاء بمكة فسألته عن شيء،
فقال: من أين أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة.قال: أنت من أهل القرية الذين
فارقوا دينهم وكانوا شيعاً؟قلت: نعم !قال: فمن أي الأصناف أنت؟ قلت:
ممن لا يسب السلف ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحداً من أهل القبلة بذنب.
فقال عطاء: عرفت فالزم.
ما اجتمعت عليه الأمة أقوى عندنا من الإسناد.
وقيل لعطاء: إن هاهنا قوماً يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فقال:
{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى }
فما هذا الهدى الذي زادهم؟
قلت: ويزعمون أن الصلاة والزكاة ليستا من دين الله.
{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ }
دخلنا على محمد بن سوقة فقال: ألا أحدثكم بحديث لعله أن ينفعكم،
قال لي عطاء بن أبي رباح: يا ابن أخي، إن من كان قبلكم كانوا يكرهون
فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام إثماً، ما عدا كتاب الله أن يقرأ،
وأمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو ينطلق العبد بحاجته في معيشته التي
لا بد له منها، أتنكرون:
{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ }
[الانفطار: 10-11].
{ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ *
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }
أما يستحي أحدكم لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره فرأى
أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه ؟.
وقال: إذا أنت خفت الحر من الليل فاقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم،
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وروى الطبراني وغيره: أن الحلقة في المسجد الحرام كانت لابن عباس،
فلما مات ابن عباس كانت لعطاء بن أبي رباح.
وروى عثمان بن أبي شيبة، عن أبيه، عن الفضل بن دكين، عن سفيان،
أن سلمة بن كهيل، قال: ما رأيت أحداً يطلب بعمله ما عند الله تعالى
إلا ثلاثة: عطاء، وطاوس، ومجاهد.
حدثنا ابن نمير، حدثنا عمر بن ذر، قال: ما رأيت مثل عطاء قط، وما
رأيت على عطاء قميصاً قط، ولا رأيت عليه ثوباً يساوي خمسة دراهم.
حدثنا قيس، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء: أن يعلى بن أمية كانت
له صحبة، وكان يقعد في المسجد ساعة ينوي فيها الاعتكاف.وروى
الأوزاعي، عن عطاء، قال: إن كانت فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم لتعجن، وإن كانت قصتها لتضرب بالجفنة.
وعن الأوزاعي، عنه، قال:
{ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ }
قال: ذلك في إقامة الحد عليهما.
كنت باليمامة، وعليها رجل وال يمتحن الناس من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم إنه منافق وما هو بمؤمن، ويأخذ عليهم بالطلاق
والعتاق أن يسمي المسيء منافقاً وما يسميه مؤمناً، فأطاعوه على ذلك
وجعلوه له، قال: فلقيت عطاء فيما بعد فسألته عن ذلك، فقال: ما أرى
بذلك بأساً يقول الله تعالى:
{ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً }
حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا إسماعيل بن أمية، قال: كان عطاء يطيل
الصمت فإذا تكلم تخيل إلينا أنه يؤيد.
{ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ }
قال: لا يلهيهم بيع ولا شراء عن مواضع حقوق الله تعالى التي افترضها
عليهم أن يؤدوها في أوقاتها وأوائلها.
رأيت عطاء يطوف بالبيت فقال لقائده: امسكوا احفظوا عني خمساً:
القدر خيره وشره، حلوه ومره من الله عز وجل، وليس للعباد فيه مشيئة
ولا تفويض.وأهل قبلتنا مؤمنون حرام دماؤهم وأموالهم إلا بحقها.
وقتال الفئة الباغية بالأيدي والنعال والسلاح.
والشهادة على الخوارج بالضلالة.
تجمعون لي المسائل وفيكم عطاء بن أبي رباح.
كنت جالساً عند عطاء فحدث بحديث، فعرض رجل له في حديثه فغضب
عطاء وقال: ما هذه الأخلاق؟ وما هذه الطبائع؟ والله إني لأسمع الحديث
من الرجل وأنا أعلم به منه فأريه أني لا أحسن شيئاً منه.
لأن أرى في بيتي شيطاناً خير من أرى فيه وسادة،
وروى عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد،
عن ابن جرير، قال: كان عطاء بعد ما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ
مائتي آية من سورة البقرة وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك.
قلت لابن جريج: ما رأيت مصلياً مثلك. فقال: لو رأيت عطاء ؟.
إن الله لا يحب الفتى يلبس الثوب المشهور، فيعرض الله عنه
وكان يقال: ينبغي للعبد أن يكون كالمريض لا بد له من قوت وليس كل
وكان يقال: الدعوة تعمي عين الحكيم فكيف بالجاهل؟ ولا تغبطن ذا نعمة