ما ورد في مدينة بغداد من الآثار
من كتاب البداية و النهاية لابن كثير يرحمه الله
ما ورد في مدينة بغداد من الآثار وما فيها من الأخبار
أربع لغات: بغداد، وبغداذ بإهمال الدال الثانية وإعجامها، وبغدان بالنون
آخره وبالميم مع ذلك أولاً مغدان، وهي كلمة أعجمية.
قيل: إنها مركبة من بغ وداد فقيل: بغ: بستان، وداد: اسم رجل.
وقيل: بغ: اسم صنم، وقيل: شيطان، وداد: عطية، أي: عطية الصنم.
ولهذا كره عبد الله بن المبارك والأصمعي وغيرهما تسميتها بغداد وإنما
يقال لها: مدينة السلام، وكذا أسماها بانيها أبو جعفر المنصور، لأن دجلة
كان يقال لها: وادي السلام، ومنهم من يسميها الزوراء.
وقد جاء في آثار عن كتب متقدمة أن بانيها يقال له:
مقلاص، وذو الدوانيق لبخله.
فصل محاسن بغداد ومساويها وما روي في ذلك عن الأئمة
قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي:
قال لي الشافعي: هل رأيت بغداد ؟ قلت: لا ! فقال: ما رأيت الدنيا.
ما دخلت بلداً قط إلا عددته سفراً إلا بغداد فإني حين دخلتها عددتها وطناً.
الدنيا بادية وبغداد حاضرتها.
ما رأيت أعقل في طلب الحديث من أهل بغداد، ولا أحسن دعة منهم.
رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت: ما فعل الله بك ؟
فقال لي: دعني من هذا، من أقام ببغداد على السنة والجماعة ومات نقل
الإسلام ببغداد، وإنها لصيادة تصيد الرجال، ومن لم يرها لم ير الدنيا.
بغداد دار دنيا وآخرة.
من محاسن الإسلام يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة،
من شهد يوم الجمعة بمدينة السلام عظم الله في قلبه محل الإسلام، لأن
مشايخنا كانوا يقولون: يوم الجمعة ببغداد كيوم العيد في غيرها من البلاد.
كنت أواظب على الجمعة بجامع المنصور فعرض لي شغل فصليت
في غيره، فرأيت في المنام كأن قائلاً يقول: تركت الصلاة في جامع
المدينة وإنه ليصلي فيه كل جمعة سبعون ولياً.
أردت الانتقال من بغداد فرأيت كأن قائلاً يقول في المنام: أتنتقل من بلد
فيه عشرة آلاف ولي لله عز وجل ؟
رأيت كأن ملكين أتيا بغداد فقال أحدهما لصاحبه: اقلبها، فقد حق
كيف أقلب ببلد يختم فيها القرآن كل ليلة خمسة آلاف ختمة ؟
عن سعيد بن عبد العزيز بن سليمان بن موسى، قال: إذا كان علم الرجل
حجازياً وخلقه عراقياً وصلاته شامية فقد كمل.
وقالت زبيدة لمنصور النمري: قل شعراً تحبب فيه بغداد إلي.
فقد اختار عليها الرافقة فقال:
ماذا ببغداد من طيب الأفانين * ومن منازه للدنيا وللدين
تحيي الرياح بها المرضى إذا نسمت * وجوشت بين أغصان الرياحين
قال: فأعطته ألفي دينار.
وقرأت في كتاب طاهر بن مظفر بن طاهر الخازن بخطه من شعره:
سقى الله صوب الغاديات محلة * ببغداد بين الكرخ فالخلد فالجسر
هي البلدة الحسناء خصت لأهلها * بأشياء لم يجمعن مذ كنَّ في مصر
هواء رقيق في اعتدال وصحة * وماء له طعم ألذ من الخمر
ودجلتها شطان قد نظما لنا * بتاج إلى تاج وقصر إلى قصر
تراها كمسك والمياه كفضة * وحصباؤها مثل اليواقيت والدر
وقد أورد الخطيب في هذا أشعاراً كثيرة وفيما ذكرنا كفاية.
وقد كان الفراغ من بناء بغداد في هذه السنة - أعني:
سنة ست وأربعين ومائة -.
وقيل: في سنة ثمان وأربعين.
وقيل: إن خندقها وسورها كملا في سنة سبع وأربعين.
ولم يزل المنصور يزيد فيها ويتأنق في بنائها حتى كان آخر ما بنى فيها
قصر الخلد، فظن أنه يخلد فيها، أو أنها تخلد فلا تخرب، فعند كماله مات.
وقد خربت بغداد مرات كما سيأتي بيانه.
وفي هذه السنة: عزل المنصور سلم بن قتيبة عن البصرة وولى عليها
محمد بن سليمان بن علي، وذلك لأنه كتب إلى سلم يأمره بهدم بيوت
الذين بايعوا إبراهيم بن عبد الله بن حسن فتوانى في ذلك فعزله، وبعث
ابن عمه محمد بن سليمان فعاث بها فساداً، وهدم دوراً كثيرةً.
وعزل عبد الله بن الربيع عن إمرة المدينة وولى عليها جعفر بن سليمان،
وعزل عن مكة السري بن عبد الله، وولى عليها عبد الصمد بن علي.
قال: وحج بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد
بن علي. قاله الواقدي وغيره.قال: وفيها: غزا الصائفة من بلاد الروم
جعفر بن حنظلة البهراني.
وتوفي سنة ست وأربعين ومائة من الأعيان:
أشعث بن عبد الملك، وهشام بن السائب الكلبي، وهشام بن عروة،
ويزيد بن أبي عبيد في قول.