الأخت الزميلة / أملى الجنة
فوائد غض البصر
سوف نقف على كلامٍ متين وتحريرٍ عظيم للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى
؛ فلنتأمل عباد الله في كلامه بتمعُّن وتفهُّم فإنه عظيم الفائدة ونفوسنا
تمس حاجتها إلى الوقوف عليه . فمن فوائد غض البصر
فيما ذكره رحمه الله
قال : أحدها :
أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده .
الثانية – من فوائده - :
أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم - الذي لعلَّ فيه هلاكَه - إلى قلبه.
الثالثة :
أنه يورث القلب أنْساً بالله وجمعِيَّةً عليه ؛ فإنَّ إطلاق البصر يفرِّق القلب
ويشتته ويُبعده من الله ، وليس على القلب شيء أضرّ من إطلاق البصر
فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه.
الرابعة :
أنه يقوِّي القلب ويفرِّحه ، كما أنَّ إطلاق البصر يُضعِفه ويُحزِنه.
الخامسة :
أنه يُكسب القلب نورا ، كما أنَّ إطلاقه يلبسه ظلمة ، ولهذا ذكر سبحانه
آية النور عقيب الأمر بغضِّ البصر ، قال:
{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ }
[النور:30]
ثم قال إثر ذلك :
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ }
[النور:35] ؛
أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه،
وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية ، كما أنه إذا
أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان .
السادسة :
أنَّه يورث فِراسة صادقة يميِّز بها بين الحق والباطل والصادق والكاذب ،
وكان شجاع الكرماني يقول: "من عمَّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام
المراقبة وغضَّ بصره عن المحارم وكفَّ نفسه عن الشبهات واغتذى
بالحلال لم تخطئ له فراسة "
وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة ، والله سبحانه يجزي العبد على عمله
بما هو من جنس عمله ، ومن ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه ، فإذا
غضَّ بصره عن محارم الله عوَّضه الله بأن يطلق نور بصيرته عِوضاً
عن حبس بصره لله ، ويفتح عليه باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة
الصادقة المصيبة التي إنما تُنال ببصيرة القلب وضد هذا ما وصف الله به
اللُّوطيين من العَمَه الذي هو ضد البصيرة فقال تعالى:
{ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ }
[الحجر:72] ،
فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل ، والعمه الذي هو فساد البصيرة ،
فالتعلُّق بالصور يوجب فساد العقل وعمه البصيرة وسُكْر القلب .
السابعة :
إنه يورث القلب ثباتاً وشجاعةً وقوة ، فجمَع الله له بين سلطان النصرة
والحجة وسلطان القدرة والقوة كما في الأثر "الذي يخالف هواه يَفْرَق
الشيطان من ظلِّه " ، وضدُّ هذا تجد في المتبع لهواه من ذُلِّ النفس
ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها ما جعله الله سبحانه فيمن عصاه
الثامنة :
أنَّه يسدُّ على الشيطان مدخله من القلب ؛ فإنه يدخل مع النظرة وينفذ
معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي ، فيمثِّل له
صورة المنظور إليه ويزينها ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب ثم يعِدُه
ويمنِّيه ، ويوقِد على القلب نار الشهوة ،
ويلقي عليه حطب المعاصي التي لم يكن يُتوصل إليها بدون تلك الصورة
فيصير القلب في اللهب ، فإنَّ القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب ،
فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور ، ولهذا كانت عقوبة أصحاب
الشهوات للصور المحرمة : أن جُعِل لهم في البرزخ تنور من نار
وأودعت أرواحهم فيه إلى يوم حشر أجسادهم ، كما أراه الله لنبيه
صلى الله عليه وسلم في المنام في الحديث المتفق على صحته
التاسعة :
أنه يُفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها ، وإطلاق البصر يُنسِيه
ذلك ويحُول بينه وبينه ؛ فينفرط عليه أمره ويقع في اتباع هواه وفي
الغفلة عن ذكر ربه ، قال تعالى:
{ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }
[الكهف:28] .
العاشرة :
أن بين العين والقلب منفذاً وطريقا يوجب انتقال أحدهما إلى الآخر وأن
يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، فإذا فسد القلب فسد النظر ، وإذا فسد
النظر فسد القلب ، وكذلك في جانب الصلاح ، فإذا خربت العين وفسدت
خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات
والأوساخ فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به
والسرور بقربه فيه ، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك
ولله در القائل :
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولاوتر
كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر ، وجدير بكل مؤمن ومؤمنة أن
يتأمل في هذه الفوائد العظام وأن يحرص على صيانة بصره وحفظ عينه
ليسْلَم له قلبه ، وليسلَم له دينه وليسلَم من غوائل إطلاق البصر وهي
كثيرة تجرُّ على العبد مصائب وويلات لا حدَّ لها ولا عدّ