خُطَبّ الحرمين الشريفين
خُطَبّتي الجمعة من المسجد الحرام
مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور سعود الشريم - يحفظه الله
خطبتي الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان :
شهر رمضان والتنافس في الخيرات
والتي تحدَّث فيها عن شهر رمضان وما حبانا الله فيه من خيراتٍ وبركاتٍ،
مُذكِّرًا بوجوب اغتِنام موسِم الخيرات قبل فوات الأوان في الطاعات،
والبُعد عن كل ما يُغضِبُ اللهَ تعالى، ويُفسِد الصيام .
الحمد لله الكريم الغفَّار، خلقَ الليلَ والنهار، وقدَّر فيهما بعلمِه وحكمتِه الأقدار،
يعلمُ عدد قطر الأمطار، وورق الأشجار،
وكل دابَّةٍ دبَّت على الأرض أو طيرٍ بجناحَيه طار،
{ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ }
[ النور: 44 ]
سبحانه وتعالى يُبصِرُ كلَّ شيءٍ
{ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }
[ الأنعام: 103 ]
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه المختار،
دعا إلى الله دعوةَ الأبرار، فهو للمُهتدين منار، وسُنَّتُه للمُسترشِدين دِثار،
فصلواتُ الله وسلامُه عليه، وعلى آل بيتِه الطيبين الأطهار،
وعلى أزواجِه أمهاتِ المُؤمنين، وعلى أصحابِه الأخيار، السادَة الأبرار،
وعلى من تبِعَهم بإحسانٍ ما عسعسَ ليلٌ وتنفَّس نهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
فأُوصِيكم - أيها الناس - ونفسِي بتقوَى الله - سبحانه -؛
فهي للمُؤمن وِجاء، وللخائِف رجاء، وللظمآن سِقاء،
{ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }
[ هود: 49 ]
أيها المسلمون :
لقد حلَّ بكم ضيفٌ اشرأبَّت للُقياه نفوسُ الصالحين ..
ضيفٌ له في قلوب العارِفين مُخيَّمٌ ضُرِبَت أوتادُه .. وتسابقَت إلى استِقباله جِيادُه ..
ضيفٌ تسمُو بمُجالسَته القلوبُ المُخبِتة، وتشرَقُ بحُلُوله القلوبُ المريضة ..
ضيفٌ لا يأنسُ به إلى غُرٌّ كريم، ولا يأنَفُ منه إلا غِرٌّ لئيم.
لقد أتاكم - أيها المؤمنون - شهرُ ضياء المساجِد .. شهرُ الذكر والمحامِد ..
شهرُ البُطولات والانتِصار، ومُجاهدة النفس والهوَى والشيطان،
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ }
[ البقرة: 185 ].
أيها المسلمون:
لقد أظلَّ أمةَ الإسلام هذا الشهرُ المُبارَك، وهي تُعالِجُ من اللأواء والخُطوب والشحناء،
والعداوَة والبغضاء، ما فرَّقَت به مُجتمِعَها، وباعَدَت قريبَها؛ فخُوِّن أمينُها،
وأثمِّن خؤُونُها، وصُدِّق كاذِبُها، وكُذِّب صادِقُها. فكان حلولُه عليها ضيفًا عزيزًا،
فُرصةً سانِحةً إلى أوبةٍ بعد شُرود، وكَورٍ بعد حَور، ويقظَةٍ بعد غفلة.
إنه إن لم يكُن شهرُ رمضان المُبارَك نُقطةً فاصِلةً للأمة، بين ماضٍ جريحٍ،
وحاضرٍ كيِّسٍ قويٍّ فطِنٍ. فما هو إلا الجُوعُ والعطش، ولاتَ ساعة اغتِنام !
إنه شهرُ تنقية النفس من عوالِق الحياة وزُخرفها، يُذكِّر بالجُوع والعطَش،
ويُلجِمُ المرءَ عن التَّرَف والعبِّ من الشهوات كما الهِيم .
إنه شهرُ المُحاسَبة والجِدِّ مع الذات، إنه شهرُ ذمِّ النفس عن كل حظٍّ بغيض
وخُلُقٍ دنِيء.
إنه شهرُ اغتيال المعاصِي، وإذكاء المُمانَعة أمام الشيطان،
وما يجلِبُه على الأمة بخَيلِه ورجِلِه
{ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا }
[ النساء: 120 ].
عباد الله :
إن الله - جلَّ شأنُه - حينما شرعَ لنا صومَ شهر رمضان، جعلَ التنافُس فيه
مُشاعًا لعُموم عباده، فهو لم يفرَض للأغنياء وحسب، ولا للفُقراء وحسب،
ولا للعُبَّاد وحسب، كلا؛ بل هو لعُموم الأمة. فهو سُلوة العُبَّاد، وتجارةُ الأغنياء،
وخلوةُ الذاكرين، كلٌّ بما وهبَه الله من همَّةٍ وشِرَّة؛ فإن للغنيِّ فيه حظًّا، وللفقير فيه حظًّا،
ولقارِئ القرآن حظًّا، ولقائمٍ ليلَه حظًّا.
وإن المُحصِّلة في ذلكم كلِّه: تحقيقُ التقوى التي شرعَ الله الصومَ لأجلها
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
[ البقرة: 183 ].
عباد الله:
إن من أعظم الأخلاق التي يتجاذبُها الصائِمون في شهر رمضان المُبارَك –
بعد كبحِ جِماح النفس بالصوم، إبَّان تصفيدِ الشياطين - هو ذلكم الخُلُق الرفيع،
الذي يتجلَّى في التراحُم والتعاطُف؛ إذ يزدادُ توقُّدًا، يضطرُّ النفسَ إلى أن يرهَفَ طبعُها،
ويأسَفَ قلبُها، فيحمِلُ الصائمُ في نفسه معنى الناس لا معنى ذاتِه المُقصِّرة،
فإن من فاقَ الناسَ بنفسِه الكبيرة، ستكونُ عظمتُه في أن يفُوقَ هو نفسَه الكبيرة
دون بطَرٍ أو غمطٍ .
وإذا عظُمَت نفسُ المرء هانَ عنده المال والبذل والجُود، فاغتالَ شُحَّه ووأدَ أنانيَّتَه
وهي حيَّة، فلم يُصبِح حينَها حِلسَ شُحٍّ، أو كنَدٍ، أو بُخلٍ، أو كسلٍ أو تسويف.
فيُحدِقُ ببصرِه،
ويتدبَّر بقولِه قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -:
( إن في الجنَّة غُرفًا يُرى ظثهورها من بُطونها، وبُطونُها من ظُهورها
قالوا: لمن هي يا رسول الله؟
قال: لمن طيَّبَ الكلام، وأطعمَ الطعام، وأدامَ الصيام، وصلَّى والناسُ نِيام )
رواه أحمد والترمذي.
أيها المُسلمون الصائِمون القائِمون:
إنه إن لم يكُن شهرُ رمضان المُبارَك سببًا لإذكاء الإحساس بهَيبَته وحُرمته،
واستِحضار حُدود الله فيه، والبُعد عن مُشوِّشاته ومُلهِياته،
فإن النفسَ المريضة ستخبُث حينئذٍ، فتُشوِّشُ روحانيَّته،
وتخلُق له جوًّا من المُتضادَّات اللامسؤولة،
مُتمثِّلةً في السِّباق المحمُوم عبر القنوات المرئية، باستِنفارٍ مُثيرٍ للدهشة،
إلى ما يخدِشُ الحياء، ويُشيعُ الفاحِشةَ، وينشُرُ الإثمَ بكل بلادةٍ وقحَة،
فيحلِقون الدين قبل أن يحلِقوا العفاف والحياء.
إنه يؤُزُّون من خلالِه الأبصار والأسماع أزًّا، ويأطُرونَها أطرًا على أن تجعلَ مفهومَ
رمضان أنه شهرٌ للتسلِية والترفيه والانفِلات،
بمُشاهَداتٍ تُضادُّ خاصيَّةَ هذا الشهر المُبارَك؛ من أفلامٍ هابِطة،
ومشاهِد تُفسِد ولا تُصلِح، وتُفرِّقُ ولا تجمع.
ولسانُ حال مُواقِعيها أنهم يُنغِّصون أجواءَ الشهر المُبارَك عن الشياطين
المُصفَّدة بالوكالَة .
فأين هؤلاء من عُقوبة انتِهاك حُرمة شهر الله المُبارَك؟!
فضلاً عن كونها مُحرَّماتٍ في رمضان وغير رمضان. أُفٍّ لهؤلاء ثم أُفٍّ!
ألا يعُون قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -:
( من لم يدَع قولَ الزُّور والعملَ به والجهل،
فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه )
رواه البخاري.
ألا فليتَّقِ الله لُصوصُ مواسِم عبادات الأمة، وليكُفُّوا عن التشويشِ والتهويشِ في شهر البركات والرحمات، فإن لم يكُن هذا إيذاءً في الأخلاق والعبادات، فما هو الإيذاءُ إذًا ؟!
وإن لم يكُن هذا هو تعدِّي حُدود الله، فما هو التعدِّي إذًا؟!
لقد آثَرَ الخيِّرون الصومَ والطاعةَ وذِكرَ الله، وآثَروا هُم هدمَ الأخلاق،
والإمساكَ بمِعوَل إيذاء أهل الإيمان. لقد آثَرَ الخيِّرون استِمطار الرحمات
والبركات بالتِزام حُدود الله في رمضان، وآثَرَ أولئك استِمطار الخزيِ والخُسران،
بهتكِ حُرمة الشهر والإيذاء فيه.
ألا وإن الله - جل وعلا - يقول:
{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا
فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }
[ الأحزاب: 58 ].
فرحِمَ الله عبدًا صامَ فعَفَّ، وقامَ فأنابَ، وتذكَّر قولَ مولاه:
{ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ
مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ }
[ الشورى: 47 ].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم،
قد قلتُ ما قلتُ؛ إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان،
وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ وخطيئةٍ،
فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إن ربي كان غفورًا رحيمًا.
الحمد لله على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتِنانه .
فاتَّقوا الله - عباد الله -، واعلَموا أن شهرَ الصوم شهرُ تخليةٍ وتجلِيةٍ،
وتهيئةٍ للتهذيب والتحلِية؛ لأن المشغُول لا يُشغَل،
ومن امتلأَ قلبُه بشواغِل الدنيا وصوارِفها زاحمَت الصفاءَ والإقبالَ على الطاعة،
في موسمٍ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر.
وإذا كان شهرُ رمضان المُبارَك شهرَ الدعاء والِّكر وطُول القُنوت،
فحرِيٌّ بالمُؤمن الغُرِّ ألا يُزاحِم شيئًا من ذلكم بصوارِفِها،
ليستحِقَّ بذلك أن يدخُل في جُملة الذين إذا دعَوا ربَّهم استجابَ لهم،
من الذين أرشدَهم الله غِبَّ آيات الصيام بقوله:
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }
[ البقرة: 186 ].
والدعاءُ المُستجابُ هنا هو دعاءُ المُخبِت الخاشِع، المُوقِن بالإجابةِ؛
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال:
( واعلَموا أن الله لا يستجيبُ دُعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ )