فاتقوا الله معاشر المسلمين ، وراقبوه في السر و العلن ،
و أعبدوه كأنكم ترونه ، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم ، 
(( وَتَوكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ * ٱلَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * 
وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ )) 
[ الشعراء:217-220 ] .
 
عباد الله ، إن في كرِّ الأيام و الليالي لعبرةً ، و الأيام تمر مرَّ السحاب ، 
عشيةٌ تمضي ، و تأتي بكرة ، و حساب يأتي على مثقال الذرة ، 
و الناس برُمَّتهم منذ خُلقوا لم يزالوا مسافرين ، 
و ليس لهم حطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو في السعير ،
ألا و إن سرعة حركة الليل و النهار لتؤكِّد تقارب الزمان الذي هو من أشراط الساعة 
كما صحَّ بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق صلوات الله و سلامه عليه . 
و هذا كله – عباد الله – يُعدُّ فرصةً عظمى لإيقاظ ذوي الفطن و أصحاب الحجى ، لفعل الخير ،
و التوبة النصوح ، و إسداء المعروف ، و ترك ما يشين ، 
(( وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ
أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ))
[ الفرقان:62 ] .
لقد ظل المسلمون جميعاً شهراً كاملاً ينالون من نفحات ربهم ، 
و يورون الله من أنفسهم متقلِّبين في ذلك بين دعاء و صلاة و ذكر و صدقة و تلاوةٍ للقرآن ، 
ولكن سرعان ما انقضت الأيام ، و تلاشت الذكريات ،
و كأنها أوراق الخريف عصفت بها الريح على أمر قد قدر ، و إلى الله المصير .
أيها المسلمون ، 
إن من يقارن أحوال الناس في رمضان و بعد رمضان ليأخذ العجبُ من لبِّه كلَّ مأخذ ، 
حينما يرى مظاهر الكسل و الفتور و التراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان ، 
و كأنَّ لسان حالهم يحكي أن العبادة و التوبة و سائر الطاعات لا تكون إلا في رمضان ،
و ما علموا أن الله سبحانه هو رب الشهور كلها ، و ما شهر رمضان بالنسبة لغيره 
من الشهور إلا محط تزود و ترويض على الطاعة و المثابرة عليها ،
إلى حين بلوغ رمضان الآخر ، و لا غرْو في ذلك عباد الله ، 
فالله جل وعلا أتبع فرض الصيام على عباده بقوله :
(( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) 
[ البقرة:21 ] .
و من هنا – عباد الله – كان لزاماً علينا أن ننظر إلى حقائق العبادات و آثارها ،
لا إلى صورها و رسومها ، إذ كم من مجهد نفسه كان حظه من صيامه الجوعَ و العطش ،
و كم من مواصل للعبادة فيه فكان حظه فيه التعب و السهر ، 
و آكد ما يدل على ذلك حينما يُسائل الناس أنفسَهم : كم مرة قرؤوا القرآن في رمضان ؟
و كم سمعوا فيه من حِكَم و مواعظ وعبر ؟
ألم يسمعوا كيف فعل ربهم بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ؟ !
ألم يقرؤوا صيحة عاد ، و صاعقة ثمود ، و خسف قوم لوط ؟ 
ألم يقرؤوا الحاقة و الزلزلة و القارعة و إذا الشمس كورت ؟ ! 
فسبحان الله ، ما هذا الذي ران على القلوب ؟ ! 
(( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ 
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً )) 
[ النساء:82 ] .
أفقُدَّت قلوبنا بعد ذلك من حَجَر ؟ ! أمْ خُلقت من صخر صلب ؟ ! 
أين القلب الذي يخشع و العين التي تدمع ؟ فلله كم صار بعضها للغفلة مرتعاً .
أيها المؤمنون : إن لرمضان ميزة و خصوصية في العبادة ليست في غيره من الشهور ،
بيْد أنه ليس هو محل الطاعة فحسب ، ولذلك كان النبي صلِّ الله عليه و سلم 
جواداً في كل حياته غير أنه يزداد جوده إذا حلَّ رمضان ، 
ناهيكم عن أن الرجوع و النكوص عن العمل الصالح هو مما استعاذ منه 
النبي صلِّ الله عليه و سلم بقوله فيما صح عنه : 
(( وأعوذ بك من الحور بعد الكور ))
و الله جل و علا يقول : 
(( وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـٰثًا )) 
[ النحل:92 ] . 
و يؤكد ذلك ما قاله صلِّ الله عليه و سلم في دعائه المشهور :
(( واجعل الحياة زيادة لي في كل خير )) ،
إذ لم يُقصر الخير على شهر رمضان فحسب ، 
بل إن هذا كله إنما هو استجابة لأمر ربه جل و علا بقوله :
(( وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ )) 
[ الحجر:99 ] ، 
فلا منتهى للعبادة و التقرب إلى الله إلا بالموت .
إن مما لا شك فيه أن هناك ضعفاً في البشر لا يملكون أن يتخلصوا منه ، 
و ليس مطلوبٌ منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم ، 
غير أن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله في كل حين ، 
و تجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندهم ثقافةً و أسرة 
و إعلاماً من الثوابت التي لا تتغير، و لا تخدَع بها النفس في موسمٍ ما دون غيره ، 
كما أنها تمنعهم في الوقت نفسه – بإذن الله – من التساقط و التهالك،
و تحرسهم من الفترة بعد الشرَّة ، فرسول الله صلِّ الله عليه و سلم يقول:
(( يا أيها الناس ، خذوا من الأعمال ما تطيقون ، 
فإن الله لا يمل حتى تملوا ، و إن أحب الأعمال إلى الله ما دام و إن قل ))
[رواه البخاري و مسلم] .
و لأجل هذا أيها المسلمون ،
فإن هناك عبادات هي من الثوابت التي لا تتغير بعد رمضان ، كالصلاة و الزكاة و الصدقة ، 
و كذا الدعاء لنفسك و لمن أوصاك به و لإخوانك في الملة و الدين 
من المستضعفين والمجاهدين، 
ناهيكم عن التوبة المطلوبة في كل حين و آن ، و التي أمرنا الله بها في قوله :
(( وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ))
[ النور:31 ] ،
و كان يتأولها النبي صلِّ الله عليه و سلم بقوله :
(( إني لأستغفر الله و أتوب إليه في اليوم مائة مرة ))
 
إذا عرفت – أيها المرء – هذه الأمور كلها ، فما عليك إلا أن تلتزم ، 
و لقد أحسن من انتهى إلى ما سمع أو علم ، 
و لقد ذقت طعم العبادة في رمضان و لذة القرب من الله ،
فلا تعكرن هذا الصفو بالكدر، و الهناء بالشقاء ، و القرب بالبعد .
إن البقاء على الطاعة في كل حين أو التهاون عنها كرات و مرات
ليعودان في المرء – بإذن الله – إلى القلب ، و هو أكثر الجوارح تقلباً في الأحوال ،
حتى قال فيه المصطفى صلِّ الله عليه و سلم : 
(( إنما سُمِّي القلب من تقلبه ، 
إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً على بطن ))
[رواه أحمد] ،
و لأجل هذا كان من دعائه صلِّ الله عليه و سلم : 
(( يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك )) 
[رواه الإمام أحمد]
و بعدُ يرعاكم الله ، فإن من حق نفسك عليك – أيها المسلم – أن تفرح بعيدها ،
فالله جل و علا جعل الفرح و الروح في الرضا و اليقين ، 
و جعل الغم و الحزن في السخط و الشك، و ساخط العيش 
– عباد الله – هو في الحقيقة كثير الطيش ، و كأن الدنيا في عينه سمُّ الخياط ،
حتى يكون حرضاً أو يكون من الهالكين . و العيد – عباد الله – مسرح للاستئناس البريء ،
البعيد عن الصخب و العطب ، و متى تجاوز الناس حدود الله في أعيادهم من لهوٍ محرم ،
و إيذاء للآخرين بالضجيج و الأهازيج فما قدروا الله حق قدره ، و ما شكروه على آلائه،
و لقد رأى علي رضي الله تعالى عنه قوماً يعبثون في يوم العيدٍ بما لا يُرضي الله فقال :
( إن كان هؤلاء تُقُبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين ، 
و إن كانوا لم يُتقبل منهم صيامُهم فما هذا فعل الخائفين ) ،
فعلى المسلم إذاً أن لا يكون فرحاً إلى درجة الإسراف ، 
لأن الله لا يحب الفرحين من أمثال هؤلاء ، إذ بمثل هذا الفرح يتولد الأشر و البطر ،
و يدل لذلك قوله تعالى : 
(( مِن شَرّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ )) 
[ الناس:4 ] . 
فقد قال بعض المفسرين : 
إن الشيطان الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح ،
فإذا ذكر الله خنس.
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين ، 
و اللهَ اللهَ في الانضباط حال الفرح و السرور و الابتهاج ،
فالمؤمن الصادق لا يفرح إلا فرح الأقوياء الأتقياء ، و هو في الوقت نفسه لا يبغي و لا يزيغ ،
و لا ينحرف عن الصواب ، و لا يفعل فعل أصحاب النار الذين قال الله فيهم :
(( ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى ٱلأرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ )) 
[ غافر : 75 ] ،