الحمد لله أهل المغفرة و التقوى ، أحاط بكل شيء علماً ،و أحصى كل شيء عدداً ،
له ما في السماوات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى .
أحمده سبحانه و أشكره و أتوب إليه و أستغفره .
نعمه لا تحصى ، و آلاؤه ليس لها منتهى .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله .
أخشى الناس لربه و أتقى ، دل على سبيل الهدى و حذر من طريق الردى ،
صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و أصحابه ،
معالم الهدى و مصابيح الدجى و التابعين و من تبعهم بإحسان
و سار على نهجهم و أقتفى .
أمــا بعــد :
فأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ و نفسي بتقوى الله سبحانه و العمل على مرضاتِه
و تَركِ ما يُسخطه ، فما زاغ من أتقاه ، و لا خاب من رجاه ،
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ 
[ يونس :61 ، 62 ] .
أيها الناس ، إنَّ مِن الأمور التي لا يماري فيها العقلاء و لا يتجاهلها الأحياء ،
أنَّ الطمأنينة و الاستقرارَ النفسي مطلب البشر قاطبةً و إن اختلفوا في تحديد معاييرها
و سبُل الوصول إليها ، و ربما ضاقت بعض النفوس في نظرتها لمثلِ هذا المعنى الرفيع ، فحصرته كامنًا في المال و تحصيله ، و نفوسٌ أخرى حصرته في الجاه و المنصب ،
و نفوسٌ غيرها حصرته في الأهل و الولد .
و هذه المفاهيم و إن كانت لها حظوة في معترك الحياة الدنيا ،
إلا أنها مسألةٌ نسبيّة في الأفراد و وَقتيّة في الزمن ،
و الواقع المشاهَد أن الأمر خلافُ ذلكم ، فكم من غني لم يفارق الشقاء جنبيه ،
و لم يجد في المال معنى الغنى الحقيقي ؛ إذ كم من غنيٍّ يجد و كأنّه لم يجد ،
و كم من صاحب جاهٍ و منزلة رفيعة لم يذق طعم الأنس و الاستقرار
و لا لاح له طيفُه يومًا ما ،
و كم من صاحب أهلٍ و ولدٍ يتقلّب على رمضاءِ الحزن و القلق و الاضطراب النفسيّ
و عدم الرضا بالحال ، بينما نجد في واقع الحال شخصًا لم يحظَ بشيء من ذلكم البتةَ ؛
لا مال و لا جاهٍ و لا أهل و لا ولد ، غيرَ أن صدرَه أوسع من الأرض برمّتها ،
و أنسَه أبلغُ من شقاء أهلها ، و طمأنينَتَه أبلجُ من قلقهم و إضطرابهم ،
لماذا ؟ و ما هو السبب عباد الله ؟
لأنّ تلكم الأصناف قد تباينت في تعاملها مع نعمة كبرى ينعم الله بها على عبده المؤمن ،
نعمةٍ إذا وقعت في قلب العبد المؤمن أرته الدنيا واسعةً رحبة
و لو كان في جوف حجرةٍ ذرعُها ستة أذرعٍ ،
و لو نزِعت من قلب العبد لضاقت عليه الواسعة بما رَحُبت
و لو كان يتقلّب بجنبيه في القصور و الدور الفارهة .
إنها نعمةُ الرضا عباد الله ، نعم نعمة الرضا ،
ذلكم السلاح الفتّاك الذي يقضي بحدّه على الأغوال الهائلة التي ترعب النفسَ
فتضرب أمانها و إطمئنانَها بسلاح ضعف اليقين و الإيمان ؛
لأن من آمن عرف طريقَه ، و من عرف طريقه رضي به
و سلكه أحسنَ مسلكٍ ليبلغَ و يصل ، لا يبالي ما يعرض له ؛
لأن بصرَه و فكره متعلقان بما هو أسمى و أنقى من هذه الحظوظ الدنيوية .
و لا غروَ ـ عباد الله ـ أن يصل مثل هذا سريعًا ؛
لأنّ المتلفِّت لا يصل و لا يُرجى منه الوصول ، يقول المصطفى
: (( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا و بالإسلام دينًا و بمحمد رسولاً ))
رواه الترمذي ،
و قال
: (( من قال : رضيتُ بالله ربًّا و بالإسلام دينًا و بمحمّد رسولاً و جبت له الجنّة ))
رواه أبو داود .
إنّ للرضا ـ عباد الله ـ حلاوةً تفوق كلَّ حلاوة ، و عذوبةً دونها كلُّ عذوبةٍ ،
و له من المذاق النفسي و الروحيِّ و القلبيّ ما يفوق مذاقَ اللسان مع الشهد المكرَّر .
فهذان الحديثان ـ عباد الله ـ عليهما مدار السعادة و الطمأنينة ،
و بإستحضارهما ذكرًا و عملاً تتمكّن النفس من خوض عُباب الحياة
و مقاومة أعاصيرها دون كُلفةٍ أو نصب ، مهما خالط ذلك من مشاقٍّ و عنت .
أيها المسلمون ، إن الأمة في هذا العصر الذي تموج فيه الفتن و تتلاقح فيه الشرور
و النكبات لهي أحوج ما تكون إلى إعلان
الرضا بالله ربًّا و بالإسلام دينًا و بمحمّد
رسولاً . نعم عباد الله ، إنها أحوج ما تكون إلى إعلان ذلكم بلسانها و قلبها و جوارحها ؛
لأن ما تعانيه الأمة المسلمة اليوم يصدق فيه
قول الحسن البصري يرحمه الله حينما سئل :
من أين أتِي هذا الخلق ؟ قال : " من قِلَّة الرضا عن الله " ،
قيل له : و من أين أتي قلّة الرضا عن الله ؟ قال : " من قلّة المعرفة بالله " .
و لا جرم ـ عباد الله ـ أننا نسمع مثل هذا الإعلان على الألسنِ كثيرًا ،
بيدَ أن هذا ليس هو نهاية المطاف و لا غاية المقصد ،
بل إننا أحوج ما نكون إليه في الواقع العمليّ ليلامسَ شؤوننا المتنوّعة
في المأكل و المشرب و العلم و العمل و الحكم و الاقتصاد و الثقافة و الإعلام
و سائر نواحي الحياة .
إن النفوسَ مشرئبّة و الأحداق شاخصة إلى أن ترى في واقع الناس الرضا
بألوهيّة الباري جلّ شأنه المتضمّنة الرضا بمحبّته وحده و خوفه وحده و رجائه وحده
و كلِّ ما من شأنه أن يُصرَفَ له وحده ،
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ 
[ الأنعام : 162-164 ] .
إنه الرضا بربوبيته سبحانه المتضمِّن الرضا بتدبيره و تقديره
و أن ما أصاب العبد لم يكن ليُخطئه و ما أخطأه لم يكن ليصيبَه ،
و إذا رضي العبد بربوبية الله و ألوهيته فقد رضي عنه ربُّه ،
و إذا رضي عنه ربّه فقد أرضاه و كفاه و حفظه و رعاه ،
و قد رتّب الباري سبحانه في محكم التنزيل في غير آيةٍ رضاه عن الخلق برضاهم عنه
فقال في عدّة آيات :
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
[ المائدة :119 ، التوبة : 100 ، المجادلة :22 ، البينة :8 ] .
عباد الله ، إن انتشارَ الرضا بدين الله في أرضه لهو مظنّة سعادة
المجتمعات المسلمة برمّتها ، و متى عظّمت الأمة دينها و رضيت به حكَمًا عدلاً
في جميع شؤونها أفلحت و هدِيَت إلى صراط مستقيم .
و إن واقعَ مجتمع يشدّ الناسَ إلى التديّن و يذكّرهم بحقّ الله
و تُشَمّ رائحة التديّن في أروقته لهو المجتمع الرضيُّ حقًّا المستشعرُ ضرورةَ
هذا الدين له كضرورةِ الماء و الهواء ؛
لأن كلّ أمّة تهمل أمرَ دينها و تعطّل كلمةَ الله في مجتمعها فإنّما هي
تهمل أعظَم طاقاتها و تعطِّل أسباب فلاحها في الدنيا و الآخرة .
فيا لله العجب كيف يتحلَّل أقوام عن دينهم و يستخفّون به
و يقعدون بكلّ صراط يوعدون و يصدون من آمن به يبغونها عوجًا ؟ !
و يالله العجب كيف يتوارى أقوام بدينهم و لا يظهرونه إلا على استحياءٍ أو تخوّف ؟ !
أين هؤلاء من قول النبي
: (( ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان :
أن يكون الله و رسوله أحبَّ إليه مما سواهما ،
و أن يحبَّ المرء لا يحبّه إلا لله ،
و أن يكرهَ أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار ))
رواه أبو داود و النسائي ؟ !
ألا ما أعظمَ الأمةَ الواثقةَ بنفسها الراضيةَ بربها و دينها و رسولها
، تردّد في سرِّها و جهرها :
" رضينا بالله ربًّا و بالإسلام دينًا و بمحمد
رسولاً " . إن الاضطرابَ و التفرّقَ و الذلَّ و الخوف و الفوضى كلُّ ذلك
مرهون سلبًا و إيجابًا بالرضا بالدين وجودًا و عدمًا ،
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ 
[ آل عمران :85 ] .
إنه الدين الكاملُ الصالح لكلِّ زمان و مكان ،
إنه دين الرحمة و الرأفة و القوّة و الصدق و الأمانة و الإستقامة و العبودية لله ،
دين متين خالدٌ لا يُقوَّض بنيانه و لا تُهزّ أركانه ،
دينٌ لا يشوبه نقصٌ و لا يفتقر إلى زيادةٍ ، دين كامل بإكمال الله له ،
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا 
[ المائدة :3 ] .