الوهاب المنان ، الرحيم الرحمن ، المدعو بكل لسان ، المرجو للعفو و الإحسان ،
أحمده سبحانه و تعالى و أشكره ، و أتوب إليه و أستغفره ،
فلا خير إلا و هو مصدره ، و لا فضل إلا منه أوله و آخره .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
جميل العوائد ، و جزيل الفوائد ، هو أكرم مسؤول و أعظم مأمول ،
سبحانه علام الغيوب و مفرّج الكروب ، و مجيب دعوة المضطر المكروب ،
و أشهد أن سيدنا محمدا عبده و رسوله ، و حبيبه و خليله ،
الوافي في عهده ، و الصادق في وعده ، ذو الأخلاق الطاهرة ،
المؤيّد بالمعجزات الظاهرة ، و البراهين الباهرة .
صلى الله و سلم و بارك عليه ، و على آله و أصحابه و تابعيه ،
صلاة تشرق إشراق البدور ، و تتردد مع أنفاس الصدور ،
و سلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
أمّـــا بعـــد :
فإنَّ خيرَ ما تُفتَتح به الوصايا و تُختَتَم ، و يُستجلَب به الخير و يُستَتَمّ ،
الحثُّ على تقوى الإلهِ و خشيته في السرِّ و العلن ؛
فمن جعل التقوَى مرمَى بصرِه أفلح و نجَا ، و فازَ بما أمَّل و رجا،
و صدَر عن بهجةٍ و إنشراح روح ،
و نفسٍ راضية مرضية في رياضِ السّعادة تغدو و تَروح .
أيّها المؤمنون ، لسنا في نجوًى عن القول :
إنّ أمّتَنا الإسلاميّة العتيدة إنما شدَّت ركابها شطرَ المجد و العلياء
و تسنَّمت قِمَم السؤدَدِ و الإباء و ساقت الإنسانيّةَ إلى مرابِع الحضارة و المدنيّة ،
و أفياءِ الأمن و الرّخاء و العدل ، ساعةَ استعصَمَت بالوحيَين الشريفين ،
و أستمسَكت بالهديَين النيِّرين ، و كانت مِلءَ سمعها و بصرها ،
و مُفعَم روحِها و مُستَولَى مشاعرها ، سنّةُ نبيّها الغرّاء و سيرتُه و شمائِله
.
و يومَ أن انحرف بها المسار عن ذلك الهديِ المتلألئ ،
دخلت الأمّةُ في َبابِ التبعيّة و الذيليّة و الوهَن ،
و صارت مع التنافُر و التناثر في قَرَنٍ ، و الْتأمَتْ مع الأسَى و الهوان ،
و أصبح الإستمساك بالكتاب و السنة عندها قائم على دعاوًى منَ الحبِّ زائفة ،
يكاد عند التمحيص و التدقيق ، لا يبارِح الألسنة و الشِّفاه ،
و ذلك من مكامنِ دائها ، فَدَاءُ الأمّة فيها ،
و لو أنها أعتصَمَت بالكتاب و السنّة ما أستفحَل داؤها و لتحقَّق دواؤها .
إخوةَ الإيمان ، و لئن ازدَانَت الدنيا و ضَّاءةً خضراء منذ ما يربُو
على أربعةَ عشر قرنًا من الزّمان ببعثة سيِّد الأنبياء
،
و عطَّرت سيرته العبقةُ الأقطارَ بما تضمَّنته من حقائق المهابةِ و الجمال و الخشية ،
و مسدَّدِ الحِكمةِ في الأقوالِ و الفِعال ، فإنَّ تلكم السيرةَ المشرقة الجبين ،
المتلألِئة المُحَيَّا ، لا تزال تقف منادية و مناشدة :
إليَّ إليَّ ، نهلاً و فهمًا ، و إقتِباسًا و إعتصاماً .
معاشر المحبين ، إنَّ الحديثَ عن الحبيب المصطَفى ، و الرسول المجتبى ،
والخاتم المقتَفَى صلواتُ الله عليه و على آلِه و صحبه و سلّم لهو حديثٌ عَذبُ المذاق ،
مُجرٍ لدموع المآق ، بَلسَم لجفوة القلوب و لقَسوَتها تِرياق ،
كيف لا و هو رسول الملِك العلام ، و حامِل ألوية العدلِ و السّلام ،
و مُخرج البشريّة بإذن ربِّها من دياجير الإنحطاطِ و الوثنية و الظلام
إلى أنوار التوحيدِ و الإيمان و الوئام ؟ !
صلوات الله و سلامه عليه ما لاحت الأنوار ، و حنَّت إليه قلوب الأبرار ،
نبيُّ المعجِزات ، و آخذُنا عن النار بالحُجُزات ، أمَنّ النّاس على كلِّ مسلم و مسلمة ،
و أحقُّهم نَقلاً و عقلاً بالمحَبّة الصادقة و الطاعة التامة ،
صاحِبُ المقامِ المحمود و اللِّواء المعقود و الحَوض المورود .
صلوات ربي و سلامه عليه ، لا يتمّ دينُ المرءِ إلاّ بإجلاله و الإنقيادِ له وحبِّه ،
و من أستكبر و أستنكف هدم دينَه و أُتُّهِم في لُبِّه ،
يقول عليه الصلاة و السلام فيما أخرجه الشيخان :
(( لا يؤمِن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه
و ولده و والدِه و الناس أجمعين )) .
تِلكم هي المحبّةُ الصادقة التي أفضَت إلى أصلِ الطّاعة و التسليم الذي دلَّ عليه
قول الحقّ تبارك و تعالى :
فَلاَوَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَوَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا 
[النساء:65] .
أحبَّه مولاه و أجتبَاه ، و ميَّزه على سائر الخليقة و أصطفاه .
فكم حَبَاه ربُّه و فضّله و خصّه سبحانه و خوَّله ،
بأبي هو و أمي عليه الصلاة و السلام .
أظهرُ الخليقَة بِشرًا و أُنسًا ، و أطيبُهم نَفَسًا و نفْسًا ، و أجملُهم وصفًا ،
و أظهرهم لُطفًا ، لا يطوي عَن بَشَرٍ بِشْرَهُ ، و حاشاه أن يشافِهَ أحدًا بما يكره ،
و البِشْرُ عنوان البشير ، صلّى الله عليه ما همَى رُكام و ما هَتن غَمام ،
كان ذا رأفةٍ عامّة و شفَقَة سابغة ، أجملُ الناسِ ودًّا ، و أحسنُهم وفاءً و عهدًا ،
تواضَعَ للناس و همُ الأتباع ، و خفض جناحه لهم و هو المتبوع المطَاع ،
كان شديدَ الخوف و العبادة ، وافرَ الطاعة و القنوت ، يبذُل الرّغائب ،
و يعين على الصروفِ و النوائب ، ما سئِل عن شيء فقال : لا ،
و ما أعرض عن مسلم و لا جفا .
فيا للهِ ، من ذا يستطيع أن يأتي بحديث منه ، يطفيء لوعة المحبين ،
و يشفي غليل السامعين ،
بل من ذا يستطيع أن يتفرَّد بوصفِ نبيٍّ نُزِّه عن النقائص و المثالب
و كُرِّم ببديع الشمائل و الخصائص ؟ !
نبيٌّ تقيّ ، و رسول نقيٌّ ، زكَّى الباري لسانه فقال :
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى 
[النجم:3] ،
و زكَّى بصره فقال :
مَا زَاغَ البَصَرُوَمَا طَغَى 
[النجم:17] ،
و زكَّى صدره فقال :
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ 
[الشرح:1] ،
و زكَّى فؤادَه فقال :
مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى
[النجم:11] ، [النجم:5]،
و زكّاه كلَّه فجاءت الشهادة الكبرى التي شرُف بها الوجود و أنزَوَت لها كلُّ الحدود ،
إذ يقول البَرّ الودود :
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ 
[القلم:4] .
خُلُق عظيمٌ اشتُقَّ من عظمة هذه الرسالةِ العالمية الإنسانية ،
خُلُق ملؤه الرحمة و العدل ، و الفضيلة و القوّة ، و العزة و الرفق و الحكمة ،
شعاره و دثاره
(( إنما بُعثت لأتممَ مكارم الأخلاق ))
إخوةَ الإيمان ، و لسيرةِ النبيِّ المختار
مكانتها و مقامها فيِ النفوس
التي أحبَّته و أجلّته ، و الأفئدةِ المولعة بشمائله و خصالِه ،
و إرضاءً لذلك الحبّ الطهور ، هذه ومضاتٌ و إلماحات من سيرتِه المشربة
بالرحمة و الرأفة و الحنان .
فيومَ أن اشتدَّ أذى قومِه له ، فانطلَقَ و هو مهمومٌ على وجهه عليه الصلاة و السلام ،
فلم يستفِق إلاّ و هو بقرنِ الثعالب ، فناداه ملك الجبال
و قال : يا محمّد ، إن شِئتَ أن أطبقَ عليهم الأخشبين ،
فقال
و هو الرؤوف الرحيم :
(( بل أرجو أن يخرِجَ الله من أصلابهم
من يعبدُه وحدَه لا يشرك به شيئًا ))
أخرجه الشيخان .
فسبحان الله عبادَ الله ، انظروا كيفَ قابلوه بالتَّهَجّم و النكران ،
فوهبهم العفوَ و الغفران ، و صدق الله العظيم إذ يقول :
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ 
[الأنبياء:107] ،
و قال عليه الصلاة و السلام :
(( إنَّما أنا رحمةٌ مهداة ))
أخرَّجه البخاري .
و في فتحِ مكّةَ حين اشتدَّ الفزعُ بمشركي قريش و ظنّوا كلَّ الظنّ أنّ شأفتَهم مستأصلة ،
وقف منهم الرسولُ الشاكر الرحيم ، المانّ الحليم
و قال :
(( ما تظنّون أنِّي فاعل بكم ؟ ))
قالوا : خيرًا ؛ أخٌ كريم و أبن أخٍ كريم ،
قال :
(( اللّهمّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، اذهَبوا فأنتم الطلقاء )) .
الله أكبر ، يا له من نبيٍّ ما أعظَمَه ، و مِن رسولٍ ما أكرمه .
إنّه المثل الأعلى للإنسانيّة ؛ أنتَصَر فرحِم و عفا ، و قدَر فصفَح و ما جفا .
و صفوةُ القول ياعباد الله :
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ 
[الأحزاب:21] ،
أسوةٌ في جميع ضروب الحياة و تصاريف الأمور و المعاملاتِ ،
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ 
[الأنعام:124] ،
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُوَيَخْتَارُ 
[القصص:68] .
إنَّها النفس التي عانَقَت السماء ، و عاشَت على الثَّرى دانيةً من الناس ،
مِلؤُها الإحسان المدِيد و العقلُ السديد و الرأي الرّشيد ،
في أقصى آمالِ الحِرص و الإخلاص و الصّدق و الأمانة .