عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 11-28-2012, 08:46 AM
هيفولا هيفولا غير متواجد حالياً
Super Moderator
 
تاريخ التسجيل: May 2010
المشاركات: 7,422
افتراضي

-2-
الــــغـــــد



عرفت اني فكرت ليلة أمس فيما أكتب اليوم،
وعرفت أني آخذ الساعة بقلمي بين أناملي
وأن بين يدي صحيفة بيضاء،تسود قليلا قليلا كلما أجريت القلم فيها،

ولكني لا أعلم هل يبلغ القلم مداه أو يكبو دون غايته؟
وهل أستطيع ان أتمم رسالتي هذه ،
أو يعترض عارض من عوارض الدهر في سبيلها،
لأني لا أعرف من شؤون الغد شيئا ،ولأن المستقبل بيد الله.

عرفت أني لبست أثوابي في الصباح وأنها لاتزال فوق جسمي حتى الآن،
ولكني لاأعلم هل أخلعها بيدي أم تخلعها يد الغاسل.

الغد شبح مبهم يتراءى للناظر من مكان بعيد ،
فربما كان ملكا رحيمًا،وربما كان شيطانا رجيما ،
بل ربما كان سحابة سوداء،اذا هبت عليها ريح باردة
حللت أجزاءها وفرقت ذرتاها
فأصبحت كأنما هي عدم من الأعدام التي لم يسبقها وجود .

الغد بحر خضم يعب عبابه وتصطخب امواجه ،
فما يدريك ان كان يحمل في جوفه الدر والجوهر ،أو الموت الأحمر؟

لقد غمض الغد عن العقول ودق شخصه عن الأنظار ،
حتى لو ان انسانا رفع قدمه ليضعها في خروجه من باب قصره
لا يدري أيضعها على حافة القصر ،أم على حافة القبر؟

الغد صدر مملوء يالأسرار الغزار تحوم حوله البصائر ،
وتتسقطه العقول ،وتستدرجه الانظار ،
فلا يبوح بسر من أسراره الا اذا جاءت الصخرة بالماء الزلال!

كأني بالغد وهو كامن في مكمنه رابض في مجثمه متلفع بفضل ازاره،
ينظر الى آمالنا وأمانينا نظرات الهزء والسخرية،
ويبتسم ابتسامات الاستخفاف والازدراء ،
ويقول في نفسه: لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث ،
وهذا الباني أنه يبني للخراب،
وهذا الوالد أنه يلد للموت
،ماجمع الجامع ولا بنى الباني ولا ولد الوالد!

ذلل الانسان كل عقبه في هذا العالم فاتخذ نفقا في الارض وصعد بسلم الى السماء
،وعقد مابين المشرق والمغرب بأسباب من حديد وخيوط من نحاس،
وانتقل بعقله الى العالم العلوي فعاش في كواكبه وعرف أغوارها وأنجادها ،
وسهولها وبطاحها ،وعامرها وغامرها ،ورطبها ويابسها
،ووضع المقاييس لمعرفة أبعاد النجوم زمسافات الاشعة ،
والموازين لوزن كرة الرض اجمالا وتفصيلا
،وغاص في البحار فعرف أعماقها وفحص تربتها وازعج سكانها
ونبش دفائنها وسلبها كنوزها وغلبها على لآلئها وجواهرها ،

ولكنه سقط أمام باب الغد عاجزا مقهورا لا يجرؤ على فتحه،
بل لا يجسر على قرعه،لانه باب الله ،
والله لا يطلع على غيبه أحدا.

أيها الشبح الملثم بلثام الغيب ،
هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلا
لنرى صفحه واحدة من صفحات وجهك المقنع،
أو لا فاقترب منا قليلا علنا نستطيع ان نستشف صورتك
من وراء هذا اللثام المسبل دوننا ،فقد طارت قلوبنا شوقا شوقا اليك ،
وذابت أكبادنا وجدا عليك؟

ايها الغد ،

ان لنا آمالا صغارا وكبارا ،وأماني حسان وغير حسان
،فحدثنا عن آمالنا اين مكانها منك، وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها؟
أأذلتها واحتقرتها ،أم كنت لها من المكرمين؟
لا،لا ّ صن سرك في صدرك ،وابق لثامك على وجهك ،
ولا تحدثنا حديثا واحدا عن آمالنا وأمانينا حتى لا تفجعنا فيها فتفجعنا في أرواحنا ونفوسنا.

وليست حياة المرء الا أمانيا ... اذا هي ضاعت فالحياة على الأثر

~

رد مع اقتباس