من أسرار الإعجاز اللغوي و البياني في سورة الشرح
الأستاذة : رفاه محمد علي زيتوني
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ *
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }
نزلت هذه السورة الكريمة بعد سورة الضحى؛ وكأنها تكملة لها، فيها ظل
العطف الندي ، و فيها روح المناجاة للحبيب ، و فيها استحضار مظاهر
العناية ، واستعراض مواقع الرعاية ، وفيها البشرى باليسر والفرج،
وفيها التوجيه إلى سرِّ اليُسْر و حبل الاتصال الوثيق . وهي توحي بأن
هناك ضائقة كانت في روح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر من أمور
هذه الدعوة التي كلفها ، ومن العقبات الوعرة في طريقها، ومن الكيد
والمكر المضروب حولها.. توحي بأن صدره صلى الله عليه وسلم كان
مثقلا بهموم هذه الدعوة الثقيلة, وأنه كان يحس العبء فادحًا على كاهله،
وأنه كان في حاجة إلى عون ومدد، وزاد ورصيد.. ثم كانت هذه المناجاة
الحلوة, وهذا الحديث الودود من المحِبِّ لحبيبه !
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) }
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة العامة:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ ﴾، بالسكون
. وقرأ أبو جعفر المنصور:﴿ أَلَمْ نَشْرَحَ ﴾، بفتح الحاء، وخرَّجه ابن عطيَّة
وجماعة على أن الأصل : ألم نشرحَنْ ، بنون التوكيد الخفيفة، فأبدل من
النون ألفا، ثم حذفها تخفيفًا. وقال غير واحد: لعل أبا جعفر بيَّن الحاء،
وأشبعها في مخرجها، فظن السامع أنه فتحها .
وفي( البحر المحيط ) لأبي حيان :
” أن لهذه القراءة تخريجًا أحسن مما ذكِر، وهو أن الفتح على لغة بعض
العرب من النصب بـ﴿ لَمْ ﴾ ، فقد حكَى اللَّحْيانيُّ في نوادره : أن منهم من
ينصب بها، ويجزم بـ﴿ لَنْ ﴾، عكس المعروف عند الناس . و على ذلك قول
عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد :
في كل ما هَمَّ أمضَى رأيَه قدما ** و لم يشاورَ في الأمر الذي فعلا
و خرَّجها بعضهم على أن الفتح لمجاورة ما بعدها ؛ كالكسر في قراءة :
بالجر ، و هو لا يتأتى في بيت عائشة السابق “.
ثالثًا – و في المراد بهذا الشرح - على ما ذكر- أقوال :
أحدهما:أن المراد به شقُّ صدره الشريف عليه الصلاة والسلام، روي
أن جبريل عليه السلام أتاه ، و شق صدره ، و أخرج قلبه وغسله و أنقاه
من المعاصي، ثم ملأه علمًا وإيمانًا، و وضعه في صدره . و روي عن
ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه فسَّره به ، و هو ظاهر صنيع التِّرْمِذِيِّ؛
إذ أخرج حديث شقِّ الصدر الشريف في تفسير هذه السورة ..
و هذا القول ضعيف عند المحققين .
و ثانيها : أن المراد به شرح صدره صلى الله عليه وسلم للإسلام ،
و هو المرويُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما .
و ثالثها : أنه كناية عن الإِنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية
من الكمالات ، و إعلامه برضى الله عنه ، و بشارته بما سيحصل للدّين
و رابعها : أن المراد به تنوير صدره صلى الله عليه و سلم بالحكمة ،
و توسيعه بالمعرفة ، لتلقي ما يوحى إليه .
{ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ }
و تحقيق القول فيه أن صدق الإيمان بالله و وعده و وعيده يوجب
للإنسان الزهد في الدنيا ، و الرغبة في الآخرة ، و الاستعداد للموت .
و خامسها : منهم من فسر الشرح بانفتاح صدره عليه الصلاة و السلام ؛
حتى إنه كان يتسع لجميع المهمات ، لا يقلق ، و لا يضجر ، و لا يتغير؛
بل هو في حالتيْ البؤس و الفرح منشرح الصدر ، مشتغل بأداء
و الشرح في اللغة التوسعة ، و معناه : الإراحة من الهموم و الغموم
و العرب تسمِّي الغمَّ و الهمَّ : ضيقَ صدرٍ ؛
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ }
فصل أجزاء اللحم بعضِها عن بعض ، و منه : الشريحة من اللحم ،
ثم شاع استعماله في الكشف و البسط ، و إيضاح الغامض و الخافي
من المعاني . و منه قولهم : شرَح المُشْكِلَ، أو الغامِضَ من الأمر . أي :
فسَّره ، و بسطَه , و أظهر ما خفِي من معانيه .. و كذلك شاع استعماله
في رضى النفس و سرورها بعد ضيق ألمَّ بها ، فقيل : شرح الله صدره
بكذا . أي : سرَّه به . و منه : شرح الله صدره للإسلام ، فانشرح . أي :
انبسط في رضًا و ارتياح للنور الإلهي ، و السكينة الروحية .
{ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ
وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً
كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء }
رابعًا- و الاستفهام في قوله تعالى :
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }
؟ معناه : إثبات الشرح و إيجابه ؛ لأن همزة الاستفهام إذا دخلت على
النفي ، ردته إلى الإيجاب .
و إلى هذا أشار مكي في إعرابه للآية الكريمة
بقوله في (مشكل إعراب القرآن ) :
” الألف نقلت الكلام من النفي،فردته إيجابًا “.
و الغرض من هذا الاستفهام : التذكير والتنبيه، والمعنى: شرحنا لك صدرك .
و إلى هذا أشار الزمخشري بقوله عند تفسير الآية:
” استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح
وإيجابه؛ فكأنه قيل : شرحنا لك صدرك، فنبَّه على ذلك ، و ذكَّر به “.
و جمهور النحاة و المفسرين على القول بأن هذا الاستفهام
{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ }
فيخلطون بين استفهام التذكير والتنبيه، وغيره، وبين استفهام التقرير .
و لتوضيح الفرق بينهما أقول : إذا قيل : أليس زيد مسافرًا ؟
أحدهما : أن السائل لم يعلم شيئًا عن سفر زيد ، فيجاب حينئذ بـ( لا )
في النفي . و بـ( نعم) في الإيجاب.
و الثاني : أن السائل يعلم بسفر زيد ؛ و لكنه يسأل عنه لغرض آخر ؛
كالتذكير ، أو التنبيه، أو التعجب ، أو الإنكار ، أو نحو ذلك من المعاني ،
التي يخرج إليها الاستفهام ، فيجاب حينئذ بـ( بلى ) . وعلى التنبيه
والتذكير يحمل قوله تعالى :
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }
و قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان :
ألستم خير من ركب المطايا **وأندى العالمين بطون راح
فإذا قيل: ألم تعلم بأن زيدًا مسافر ؟ أليس زيد بمسافر ؟ لم يحتمل ذلك
إلا معنى واحدًا، وهو أن السائل يعلم بسفر زيد؛ ولكن غرضه من السؤال
تقرير المخاطب؛ لأنه جاحد به بعد أن علمه، ولا يجاب إلا بـ( بلى ).
وعلى هذا يحمل قول الله تعالى :
{ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا }
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى }
وهذا هو سر دخول هذه الباء على خبر المنفي، وهو من الأسرار الدقيقة،
التي لا يكاد يُفْطَنُ إليها في البيان القرآني المعجز لدقَّتها ! و مما يحمل
على الأول ، فيحتمل فيه الاستفهام أن يكون على حقيقته من طلب الفهم ،
و أن يكون مرادًا به معنى آخر من المعاني ، التي يخرج إليها الاستفهام
{ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ }
فهذا يحتمل أن يكون استفهامًا حقيقيًّا بأن يكون لا يعلم أن له ملك مصر ،
و يحتمل أن يكون عالمًا بذلك ؛ و لكنه أورده على سبيل الافتخار .
و قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام :
{ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ }
أي : رجل واحد يرشدكم إلى ترك هذا العمل القبيح ، و يمنعكم منه. فهذا
يحتمل أن يكون استفهامًا حقيقيًّا ، و يحتمل أن يكون الغرض منه الإنكار .
وعلى هذا يجري قوله تعالى :
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }
فهذا استفهام يراد به التذكير و التنبيه ، لا التقرير . و لو كان المستفهِم –
هنا - غير الله جل و علا ، لجاز حمله على أصله من طلب الفهم .
أما حمله على استفهام التقرير فلا يحوز بحال من الأحوال؛ لأن حمله على
ذلك يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جاحدًا لشرح الله تعالى له
صدره ، و رفعه له ذكره ، و وضعه عنه وزره ، بعد أن استقر علم ذلك
عنده ، و حاشا للنبي صلى الله عليه و سلم أن يكون كذلك .. و إنما ذلك
تنبيه له و تذكير .. فتأمل !
و إذا كانوا لا يفرقون بين قوله تعالى :
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى }
فلأن معنى التقرير- عندهم - هو الإثبات ، ولا دليل لهم على ذلك سوى
أن كلاًّ منهما يجاب بـ( بلى ) في الإيجاب . و الفرق بينهما : أن كل تقرير
إثبات ، و ليس كل إثبات بتقرير . و أن التقرير هو غرض من الأغراض ،
التي يخرج إليها الاستفهام عندما يكون معناه الإثبات ، مثله في ذلك :
التذكير، أو التنبيه ، أو التوبيخ ، أو الافتخار .. و قد كان عدم تفريقهم بين
الإثبات ، و التقرير سببًا في اختلافهم في المراد من الاستفهام الداخل على
النفي ، في كثير من آي القرآن الكريم ؛
و من الآيات التي اختلفوا فيها قوله تعالى :
{ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ }
(العنكبوت: 68، والزمر: 32)
”أليس: تقرير لثوائهم في جهنم، وحقيقته: أن الهمزة همزة إنكار ،
دخلت على النفي ، فرجع إلى معنى التقرير“.
و قال أبو السعود ، و تبعه الألوسي :
”تقرير لثوائهم فيها ؛ كقول من قال :
أي : ألا يستوجبون الثواء فيها ، و قد فعلوا ما فعلوا من الافتراء على الله تعالى ،
و التكذيب بالحق الصريح .. أو : إنكار ، و استبعاد لاجترائهم على
ما ذكر من الافتراء و التكذيب ، مع علمهم بحال الكفرة . أي : ألم يعلموا
أن في جهنم مثوى للكافرين ، حتى اجترءوا هذه الجراءة “.
وكون الاستفهام- هنا- للتقرير يتناقض مع كونه للإنكار. والجمهور على
أنه للتقرير . والتقرير- باتفاقهم جميعًا- هو حمل المخاطب على الإقرار
والاعتراف بأمر قد استقر علمه عنده ، ثم جحد به . فهل كان الكافرون
مقرين ومعترفين بأن مستقرَّهم النار ؟ فإذا كان الأمر كذلك، فالمراد من
هذا الاستفهام التقرير ؛ و إلا فهو متضمِّن لمعنى الوعيد والتحقير،
وقد سمَّاه السيوطي في ( الإتقان ) بالاكتفاء،
{ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ }
أي: أليست جهنم كافية لهم سجنًا وموئلا لهم، فيها الخزي والهوان،
بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق ؟
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
فقد ذهب الزمخشري إلى أن الاستفهام فيه للتقرير .
” الكلام مع التقرير موجب ، و جعل الزمخشري منه :
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
و قيل : أراد التقرير بما بعد النفي ، لا التقرير بالنفي .. و الأوْلى أن يجعل
على الإنكار . أي : ألم تعلم أيها المنكر للنسخ “.
و ذهب الفخر الرازي إلى أن المراد بهذا الاستفهام : التنبيه .. و ذهب
ابن عطية إلى أن ظاهره الاستفهام المحض ..
” بل هذا استفهام معناه : التقرير “.
و أقرب هذه الأقوال إلى الصواب هو قول الرازي ،
و نصَّه الآتي :” أما قوله :
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
فتنبيه للنبي صلى الله عليه و سلم وغيره على قدرته تعالى ،
على تصريف المكلف تحت مشيئته و حكمه وحكمته ، و أنه لا دافع
لما أراد، و لا مانع لما اختار “ .
و مما يبعد أن يكون الاستفهام في هذه الآيات ، و نحوها للتقرير أنه يجوز
حمله في كل منها على حقيقته من طلب الفهم ، و ذلك لا يجوز
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }
بصيغة الجمع ، و لم يقل : { ألم أشرح لك صدرك } ، بصيغة المفرد .
” إما أن يحمل على نون التعظيم ، فيكون المعنى : أن عظمة المنعم
تدل على عظمة النعمة ، فدل ذلك على أن ذلك الشرح نعمة ،
لا تصل العقول إلى كنه جلالتها .
وإما أن يحمل على نون الجميع ، فيكون المعنى : كأنه تعالى يقول :
لم أشرحه وحدي ؛ بل أعملت فيه ملائكتي ، فكنت ترى الملائكة حواليك ،
و بين يديك حتى يقوى قلبك ، فأديت الرسالة ، و أنت قوي القلب ،
و لحقتهم هيبة ، فلم يجيبوا لك جوابًا . فلو كنت ضيق القلب، لضحكوا
منك .. فسبحان من جعل قوة قلبك جبنًا فيهم ، و انشراح صدرك
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }
و كان يمكن أن يقال : { ألم نشرح صدرك } ، بدون﴿ لَكَ ﴾؛
و لكن جيء به زيادة بين فعل الشرح ، و مفعوله لفائدتين :
هي سلوك طريقة الإبهام ، ثم الإيضاح للتشويق؛ فإنه سبحانه ، لما ذكر
فعل : ﴿ نَشْرَحْ ﴾، عَلم السامع أن ثَمَّ مشروحًا . فلما قال :﴿ لَكَ ﴾ ، قويَ
الإِبهام ، فازداد التشويق . فلما قال : ﴿ صَدْرَكَ ﴾ ، أوضح ما كان قد عُلِم
في ذهن السامع مبهمًا ، فتمكن في ذهنه كمال تمكن ..
{ وَ وَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ }
{ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ }
و هذا من الإطناب البليغ . قال علماء البيان :
” إذا أردت أن تبهم ، ثم توضح ، فإنك تطنب ، و فائدته : إما رؤية
المعنى في صورتين مختلفتين: الإبهام و الإيضاح . أو لتمكن المعنى
في النفس تمكنًا زائدًا، لوقوعه بعد الطلب ؛ فإنه أعز من المنساق بلا
تعب . أو لتكمل لذة العلم به ؛ فإن الشيء إذا علم من وجهٍ مَّا ، تشوَّقت
النفس للعلم به من باقي وجوهه و تألمت ، فإذا حصل العلم من بقية
الوجوه ، كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة “ .
و من الأمثلة على ذلك قول موسى عليه السلام :
{ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي }
فإن﴿ اشْرَحْ ﴾يفيد طلب شرح شيء مَّا، و﴿ صَدْرِي ﴾يفيد تفسيره وبيانه
{ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي }
و المقام يقتضي التأكيد للإرسال المؤذن بتلقى الشدائد .
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }
فإن المقام يقتضي التأكيد ؛ لأنه مقام امتنان و تفخيم .
أن في زيادة ﴿ لَكَ ﴾تنبيه على أن منافع الرسالة عائدة إلى النبي
صلى الله عليه و سلم ؛ كأنه قيل : إنما شرحنا صدرك لأجلك ، لا لأجلنا .
و في ذلك تكريم للنبي صلى الله عليه و سلم بأن الله تعالى
و مثله في ذلك قول موسى عليه السلام :
{ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي }
فكأن في ذلك اعتراف من موسى- عليه السلام- بأن منفعة الشرح عائدة
إليه؛ لأن الله تعالى لا ينتفع بإرسال الرسل، ولا يستعين بشرح صدورهم،
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }
و لم يقل : { ألم نشرح لك قلبك } ، مع أنه المراد هنا،
{ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ }
و كان الظاهر يقتضي أن يقال : { يوسوس في قلوب الناس } ؛ و لكن
عدل عنه إلى الصدر ؛ لأن الصدر- كما قال ابن قيِّم الجوزية - هو ساحة
القلب و بيته ، فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر ، ثم تلج
في القلب ، فهو بمنزلة الدهليز له . و من القلب تخرج الأوامر و الإرادات
إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود .
و من فهم هذا ، فهم قوله تعالى :
{ وَ لِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ
وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب و بيته ، فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب ،
فهو موسوس في الصدر .و مذهب الجمهور أن الصدر هو محل القرآن
و العلم . و دليلهم على ذلك قوله تعالى :
{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ }
و قال محمد بن علي الترمذي :
” القلب محل العقل و المعرفة ، و هو الذي يقصده الشيطان . فالشيطان
يجيء إلى الصدر ، الذي هو حصن القلب ، فإذا وجد مسلكًا نزل فيه هو
و جنده ، و بث فيه الهموم و الغموم ، فيضيق القلب حينئذ ،
و لا يجد للطاعة لذة ، و لا للإسلام حلاوة “ .
{ وَ وَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ }
قراءة العامة ، و قرأ أنس : { حططنا } و { حللنا } بدلاً من قوله :
﴿ وَضَعْنَا ﴾ . و قرأ ابن مسعود : { عنك وقرك } ، بدلاً من قوله :
و الوضع - في اللغة - هو إلقاء الحمل على الأرض ، و هو أعمُّ من الحطِّ
. و الوزر يقال للحمل ، و يقال لثقل الذنب ، و في وضعه عنه عليه
الصلاة و السلام كناية عن عصمته من الذنوب ، و تطهيره من الأدناس ،
و عبَّر عن ذلك بالوضع على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك .
و قيل : وضع الله تعالى عنه عبئه، الذي أثقل ظهره ، حتى كاد يحطمه
من ثقله. وضعَه عنه بشرح صدره له ، فخف و هان . و وضعه بتوفيقه
و تيسيره للدعوة و مداخل القلوب ، و بالوحي ، الذي يكشف له عن
الحقيقة ، و يعينه على التسلل بها إلى النفوس في يسر و هوادة و لين .
و جاز ذلك ؛ لأن الأول في معنى الإثبات ، فحمل الثاني على معنى الأول .
و لو كان محمولاً على لفظه ، لوجب أن يقال : ونضع عنك وزرك.
ومثله في ذلك قوله تعالى :
{ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ }
{ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ }
صفة للوزر . قال علماء اللغة : الأصل فيه : أن الظهر إذا أثقله الحمل ،
سُمِع له نقيض . أي : صوت خفيٌّ . و المراد بهذا النقْض :
صوت الأضلاع . و هو مثل لما كان يثقل على رسول الله
صلى الله عليه وسلَّم من أوزاره .
” فإن قال قائل : كيف وصف هذا الوزر بالثقل ، وهو مغفور له ،
غير مطالب به ؟ فالجواب : أن سبيل الأنبياء - صلوات الله عليهم –
و الصالحين ، إذا ما ذكروا ذنوبهم ، أن يشتدَّ غمُّهم و بكاؤهم ؛
فلهذا وصف ذنوبهم بالثقل “ .
{ وَ رَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) }
معناه : أن الله جل وعلا رفع له ذكره في الملأ الأعلى , قبل أن يرفعه له
في الأرض ، حين جعل اسمه عليه الصلاة و السلام مقرونًا باسمه جل و علا .
و رفع له ذكره في اللوح المحفوظ , حين قدر الله سبحانه أن تمر القرون
, و تكر الأجيال , و ملايين الشفاه في كل مكان ، تهتف بهذا الاسم الكريم
, مع الصلاة و التسليم . و رفع له ذكره ، حين ربطه بهذا المنهج الإلهي
الرفيع . و كان مجردُ الاختيار لهذا الأمر رفعةَ ذكر، لم ينلها أحد من قبل ،
و لا من بعد في هذا الوجود . و ليس بعد هذا الرفع رفعٌ ، و ليس وراء
هذه المنزلة منزلة .. إنه المقام ، الذي تفرد به صلى الله عليه و سلم
و روي عن مجاهد و قتادة و محمد بن كعب و الضحاك
و الحسن و غيرهم أنهم قالوا في ذلك :
” لا أُذكَرُ إلا ذُكِرتَ معي “.
و لا يخفى ما في هذا الرفع لذكره عليه الصلاة والسلام من لطف ، بعد
ذلك الوضع لأعبائه عنه . هذا الرفع ، الذي تهون معه كل مشقة و تعب
وعناء ، و ليس بعد هذا التكريم تكريم ، و ليس بعد هذا العطاء عطاء !
ثامنًا – و مع هذا كله ، فإن الله تعالى يتلطف مع حبيبه المختار , و يسرِّي
عنه , و يؤنسه , و يطمئنه ، و يطلعه على اليسر ،
{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }
و العسر : المشقة في تحصيل المرغوب ، و العمل المقصود . وتعريفه
للعهد. واليسر ضد العسر؛ وهو: سهولة تحصيل المرغوب ، وعدم التعب
فيه ، وتنكيره في الموضعين للتفخيم و التعظيم ؛ كأنه قيل : إن مع العسر
يسرًا عظيمًا ! والكلام وَعْدٌ له صلى الله تعالى عليه وسلم ، مَسوقٌ
و قوله تعالى في الحملة الثانية :
{ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }
أنه تكرير للجملة السابقة ، لتأكيد معناها ، و تقريره في النفوس،
و تمكينه في القلوب ، و هو نظير قولك : إن مع الفارس رمحًا ، إن مع
الفارس رمحًا ، و هو ظاهر في وحدة الفارس و الرمح ؛ و ذلك للإطناب
و المبالغة . فعليه يكون اليسر فيها عين اليسر في الأولى ، و المراد به
ما تيسر من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ،
أنه ليس بتكرير للأول ؛ و إنما هو تأسيس ، و يكون الحاصل من
الجملتين : أن مع كل عسر يسرين عظيمين . و الظاهر أن المراد بذينك
اليسرين : يسر دنيوي ، و يسر أخروي
و قال الكرماني في ( أسرار التكرار في القرآن ) :
{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }
ليس بتكرار؛ لأن المعنى : إن مع العسر، الذي أنت فيه من مقاساة الكفار
يسرًا في العاجل ، وإن مع العسر، الذي أنت فيه من الكفار يسرًا في الآجل
. فالعسر واحد و اليسر اثنان “
وعلى هذا يكون قوله تعالى :
{ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }
وعدًا آخر مستأنفًا ، غير الوعد الأول .
” و احتمال الاستئناف هو الراجح ، لما علم من فضل التأسيس على
التأكيد . كيف ، و كلام الله تعالى محمول على أبلغ الاحتمالين ، و أوفاهما
! و المقام - كما تقدم - مقام التسلية و التنفيس . و كان الظاهر على ما
سمعت من المراد باليسر تعريفه ؛ إلا أنه أوثر التنكير للتفخيم . و قد يقال
: إن فائدته أظهر في التأسيس ؛ لأن النكرة المعادة ، ظاهرها التغاير ،
و الإشعار بالفرق بين العسر و اليسر“ .
و الفرق بين التأسيس ، و التكرير:
أن التكرير يكون بإيراد المعنى مُرَدَّدًا بلفظ واحد . و منه ما يأتي لفائدة
، و منه ما يأتي لغير فائدة . فأما الذي يأتي لفائدة فإنه جزء من الإطناب ،
و الغرض منه التأكيد . و التأكيد هو تقرير إرادة معنى الأول ، وعدم
التجوُّز .. أما التأسيس فيفيد معنى آخر ، لم يكن حاصلاً قبل ، و هو خير
من التأكيد؛ لأن حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة .
و ظاهر المعية في قوله تعالى :
{ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }
يقتضي أن يكون اليسر مصاحبًا للعسر و مقارنًا له ؛ لأن﴿ مَعَ ﴾ ظرف
يدل على المصاحبة . و لما كان اليسر لا يجتمع مع العسر ؛ لأنهما ضدان
، أجيب عن ذلك بأن ﴿ مَعَ ﴾- هنا - مستعملة في غير معناها الحقيقي ،
و أنها مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر، أو ظهور بوادره .
و بذلك يندفع التعارض بين هذه الآية ،
{ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً }
تاسعًا - ثم يجيء التوجيه الكريم من الله جل و علا لمواقع التيسير ,
و أسباب الانشراح , و مستودع الري و الزاد في الطريق الشاق الطويل ،
{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ *وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }
أي : إذا فرغت من عبادة - كتبليغ الوحي - فاتعب في عبادة أخرى ،
شكرًا لما عددنا عليك من النعم السالفة ، و وعدناك من الآلاء الآنفة ؛
و كأنه عز وجل ، لمَّا عدَّد على نبيه و حبيبه محمد صلى الله عليه و سلم
ما عدَّد ، و وعده بما وعد ، و حقق له ما وعد، بعثه على الشكر
و الاجتهاد في العبادة ، و أن لا يخلي وقتًا من أوقاته منها؛ و لهذا كان
عليه الصلاة و السلام ، إذا ما فرغ من عبادة ، أتبعها بأخرى .
و الفراغ- في اللغة - خلاف الشُّغل . يقال : فرغ من عمله فراغًا ،
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ }
و فسِّر بقولهم : سنقصد لكم أيها الثقلان .
{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً }
قيل في تفسيره : خاليًا ؛ و كأنما فرغ من لبِّها ، لِمَا تداخلها من الخوف.
و قيل : فارغًا من ذكره . أي : أنسيناها ذكره ، حتى سكنت ، واحتملت
أن تلقيه في اليم . و قيل : خاليًا إلا من ذكره ؛ لأنه قال :
{ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا }
{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ }
يفيد أنه عليه الصلاة و السلام كان في أعمال ، لم ينته منها ؛ و لكن
السياق لم يذكر لنا شيئًا عن تلك الأعمال ، يكون متعلَّقًا للفعل﴿ فَرَغْتَ ﴾ .
وعدم ذكره يقتضي أنه لازم أعمال ، يعلمها الرسول صلى الله عليه و سلم
؛ كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة ، و تذليل
إذا أتممت عملاً من مهام الأعمال ، فأقبل على عمل آخر؛ بحيث يعمر
أوقاته كلها بالأعمال العظيمة
و بهذا يتبين أن المقصود بالأمر هو قوله تعالى :
فتمهيد و إفادة لإِيلاءِ العمل بعمل آخر في تقرير الدين و نفع الأمة .
و هذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال ، و مثله قول القائل :
ما تأتيني من فلان صلة إلا أعقبَتْها أخرى؛ و لهذا قدِّم قوله :
و جيء بالفاء الرابطة ؛ لتدل على أن ما بعدها واجب الوقوع ، عقب
وقوع الشرط مباشرة . و عليه يكون قوله تعالى : ﴿ فَانْصَبْ ﴾ أمرًا
بإحداث الفعل فورًا، بعد حدوث الشرط من دون أي تأخير .
ثم أمره تعالى بأن يرغب إلى ربه وحده ، فقال سبحانه :
{ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }
أي : اصرف وجوه الرغبات إلى ربك وحده ، لا إلى سواه ،
و لا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه .
هو من الرَّغْبَة . و الرَّغبة هي السَّعة في الإرادة .
قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام :
{ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً }
أي : رغبًا في رحمتنا ، و رهبًا من عذابنا .
فإذا قيل : رغب فيه ، و إليه ، اقتضي الحرص عليه .
{ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ }
و على هذا يحمل قوله تعالى هنا :
{ وَ إِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }
تشبيهًا بسير السائر إلى من عنده حاجته ؛
كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام :
{ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ }
و إذا قيل : رغب عنه ، اقتضى صرْف الرّغبة عنه ، و الزهد فيه ؛
{ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ }
{ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ }
فالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها :
” و ترغبون عن أن تنكحوهن “ .
وقدم قوله تعالى : ﴿ إِلَى رَبِّكَ ﴾ على قوله : ﴿ فَارْغَبْ ﴾ ، لإفادة معنى
الاختصاص . أي : لتكن رغبتك إلى ربك، لا إلى غيره ؛ فإن صفة الرسالة
أعظم صفات الخلق، فلا يليق بصاحبها أن يرغب إلى غير الرب جل و علا
، الذي وعده في سورة الضحى أن يعطيه ، حتى يرضى :
{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }
وقد حقق له سبحانه هذا الوعد في هذه السورة، فشرح له صدره،
و وضع عنه وزره ، ورفع له ذكره ، و أعطاه من خير الدنيا والآخرة
ما لم يعطه لأحد من قبله ، و لا بعده .
و لم تمنع الفاء في قوله تعالى : ﴿فَارْغَبْ ﴾ ، من تقديم المعمول :
﴿ إِلَى رَبِّكَ ﴾ ، خلافًا للمشهور من أقوال النحاة ؛ و لهذا نجدهم يتكلفون ،
فيقدرون عاملاّ محذوفًا لقوله : ﴿ فَارْغَبْ ﴾ ، فيقولون : تقدير الكلام :
و ارغب إلى ربك ، فارغب إليه . أو : وارغب إلى ربك ، فارغبه .
و الذي ألجأهم إلى هذا التكلف في التأويل و التقدير ما اصطلحوا عليه
من أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها ، و الذي عليه أهل التحقيق خلاف
ذلك.. و الله تعالى أعلم !
و هنا تنتهي السورة الكريمة ،
و قد تركت في النفس شعورين ممتزجين :
شعور بعظمة الودِّ الحبيب الجليل، الذي ينسم على روح الرسول
صلى الله عليه و سلم من ربه الودود الرحيم . و شعور بالعطف على
شخصه صلى الله عليه و سلم ، و نحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه
الكريم في هذه الآونة ، التي اقتضت ذلك الود الجميل ،