المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفوائد من77 إلى 79/ من الفوائد لابن القيم


adnan
04-12-2014, 10:35 PM
الأخت / الملكة نـــور



من كتاب الفوائد لأبن القيم يرحمه الله

الفوائد من 77 إلى 79

https://mail.google.com/mail/u/0/?ui=2&ik=8c4e62fb9f&view=att&th=1455087dff1307f9&attid=0.4&disp=emb&zw&atsh=1

[77] التعلق في المطالب العليا

إذا رأيت النفوس المبطلة الفارغة من الإرادة والطلب لهذا الشأن قد تشبث

بها هذا العالم السفلي وقد تشبثت به فكلها إليه , فانه اللائق بها لفساد

تركيبها , و لا تنقش عليها ذلك فانه سريع الانحلال عنها , و يبقى تشبثها

به مع انقطاعه عنها عذابا عليها بحسب ذلك التعلّق , فتبقى شهوتها

وإرادتها فيها , و قد حيل بينها و بين ما تشتهي على وجه يئست معه

من حصول شهوتها و لذتها . فلو تصوّر العاقل ما في ذلك من الألم

والحسرة لبادر إلى قطع هذا التعلق كما يبادر إلى حسم مواد الفساد ,

و مع هذا فانه ينال نصيبه من ذلك و قلبه و همه متعلق بالمطلب الأعلى

, و الله المستعان .

https://mail.google.com/mail/u/0/?ui=2&ik=8c4e62fb9f&view=att&th=1455087dff1307f9&attid=0.5&disp=emb&zw&atsh=1

[78] ايّاك والكذب

ايّاك والكذب فانه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه, ويفسد

عليك تصويرها وتعليمها للناس, فان الكاذب يصور المعدوم موجودا

والموجود معدوما, والحق باطلا , والباطل حقا, و الخير شرا, و الشر

خيرا , فيفسد عليه تصوره وعلمه . و نفس الكاذب معرضة عن الحقيقة

الموجودة نزاعة إلى العدم مؤثرة للباطل . و إذا فسدت عليه قوة تصوره

وعلمه التي هي مبدأ كل فعلى إرادي , فسدت عليه تلك الأفعال وسرى

حكم الكذب إليها فصار صدورها عنه كصدور الكذب على اللسان , فلا

ينتفع بلسانه ولا بأعماله ..



ولهذا كان الكذب أساس الفجور

كما قال النبي صلى الله عليه و سلم :



( إن الكذب يهدي إلى الفجور وان الفجور يهدي إلى النار )

البخاري في الأدب 10\507 رقم 6094 ومسلم , وأبو داود و أحمد .



وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده , ثم يسري إلى

الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله , فيعم الكذب

أقواله وأعماله و أحواله , فيستحكم عليه الفساد و يترامى داؤه إلى

الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدق يقلع تلك المادة من أصلها ..

و لهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق , و أضدادها من الرياء

والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر و الأشر و العجز والكسل والجبن

والمهانة وغيرها أصلها الكذب . فكل عمل ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب .

و الله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده و يثبطه عن مصالحه و منافعه ,

ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه و آخرته , فما استجلبت

مصالح الدنيا و الآخرة بمثل الصدق , و لا مفاسدهما و مضارهما بمثل الكذب

قال تعالى :



{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }

التوبة119,



و قال :



{ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }

المائدة 119,



و قال :



{ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ }

محمد21,



و قال :



{ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الْأَعْرَاب لِيُؤْذَن لَهُمْ

وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّه وَرَسُوله سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاب أَلِيم }

التوبة 90.

https://mail.google.com/mail/u/0/?ui=2&ik=8c4e62fb9f&view=att&th=1455087dff1307f9&attid=0.6&disp=emb&zw&atsh=1

[79] في ظلال الآية الكريمة



في قوله تعالى :



{ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ

وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .



في هذه الآية عدة حكم وأسرار و مصالح للعبد , فان العبد إذا علم أن

المكروه قد يأتي بالمحبوب , و المحبوب قد يأتي بالمكروه , لم يأمن أن

توافيه المضرة من جانب المسرّة , و لم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب

المضرة لعدم علمه بالعواقب , فان الله يعلم منها مالا يعلمه العبد

أوجب له ذلك أمورا :



منها : أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وان شق عليه في الابتداء, لأم

عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وان كرهته نفسه فهو خير

لها و أنفع . و كذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهي وان هويته

نفسه و مالت إليه , فان عواقبه كلها آلام و أحزان وشرور و مصائب ,

و خاصية العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة و الخير

الكثير, واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم و الشر الطويل

. فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها , و العاقل الكيّس دائما ينظر

إلى الغايات من وراء تلك الستور من الغايات المحمودة و المذمومة .

فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط به سم قاتل , فكلما دعته لذته إلى تناوله

نهاه ما فيه من السم . ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفضى إلى

العافية والشفاء , وكلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول .

و لكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها , و قوة صبر

يوطن به نفسه على تحمّا مشقة الطريق لما يؤمل عند الغاية , فأذل فقد

اليقين والصبر تعذّر عليه ذلك, و إذا قوي يقينه و صبره هان عليه كل

مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة .



و من أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم

عواقب الأمور , و الرضا بما يختاره له و يقضيه له , لما يرجو فيه

من حسن العاقبة .



و منها : أنه لا يقترح على ربه و لا يختار عليه و لا يسأله ما ليس له به

علم , فلعل مضرّته و هلاكه فيه و هو لا يعلم , فلا يختار على ربه شيئا

بل يسأله حسن الاختيار له و أن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك ..



و منها : أنه إذا فوَّض أمره إلى ربه و رضي بما يختاره له أمده فيما

يختاره له بالقوة عليه و العزيمة و الصبر , و صرف عنه الآفات , التي

هي عرضة اختيار العبد لنفسه , و أراه من حسن عواقب اختياره له

ما لم يكن ليصل إلى بعضه , بما يختاره هو لنفسه .



و منها : أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات , و يفرغ

قلبه من التقديرات و التدبيرات التي يصعد منها في عقبة و ينزل في

أخرى , و مع هذا فلا خروج له عما قدر عليه , فلو رضي باختيار الله

أصابه القدر و هو محمود مشكور ملطوف به فيه, و إلا جرى عليه القدر

و هو مذموم غير ملطوف به فيه . لأنه مع اختياره لنفسه , و متى صح

تفويضه و رضاه , اكتنفه في المقدور و العطف عليه و اللطف به فيصير

بين عطفه و لطفه , فعطفه يقيه ما يحذره , و لطفه يهوّن عليه ما قدره ..

إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده , فلا أنفع

له من الاستسلام و إلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميتة , فان السبع

لا يرضى بأكل الجيف .