الحمد لله على إحسانه ، و الشكر له على توفيقه و امتنانه ،
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمدأ عبده و رسوله الداعي إلى جنته و رضوانه ،
صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و صحبه و إخوانه ،
و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيّها المسلمون ،
إنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم لم يكادوا أن يصدِّقوا خبَرَ الوفاة ،
و لم يستَوعِب بعضُهم هذه الفاجعةَ لِعِظَم المصيبة و هول الصدمة ،
حتى كان عمر رضي الله عنه يهدِّد من يقول : إنَّ رسولَ الله قد مات .
يقول أنسٌ رضي الله عنه : لما ماتَ رسول الله
كُنّا كالغَنَم المطيرةِ في الليلةِ الشاتِية ، فما زالَ أبو بكر يشجِّعنا حتى كنّا كالأسودِ المتنمِّرة ،
و كان أبو بكر رضي الله عنه قد خَرَج في الصَّباحِ إلى منزله في طرف المدينة ،
فأقبل بفرسِه سريعًا حين سمِع الخبر ، فنزل و دخَل المسجدَ ، و لم يكلِّم أحدًا ،
حتى دخَل الحجرةَ الشريفة و عيناه تسيلان و زفراتُه تتردّد ،
فقَصَد النبيَّ
و هو مُسَجّى ببردة حَبِرة ، ثم أكبّ عليه يقبّله و يبكَي ، ثم قال : بأبي أنت و أمي ، طِبتَ حيًّا و ميّتًا .
ثم خرج أبو بكر و عُمَر يكلّم الناس ،
فقال : اسكُت يا عمر ،
فأبى إلاّ أن يتكلّم ،
فأقبل الناسُ إلى أبي بكر و تركوا عمر رضي الله عنهم أجمعين ،
فحمِد الله تعالى و أثنى عليه و قال :
( أمّا بعد : فمَن كان منكم يعبد محمّدًا فإن محمّدًا قد مات،
ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت ) ،
و تلا قولَ الله عز وجل :
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ <IMG width=14 height=14>
[آل عمران: 144] ،
قال ابن عباس رضي الله عنهما : و الله ، لكأنَّ الناسَ لم يعلموا أن الله أنزَل هذه الآيةَ
حتى تلاها أبو بكر ، فتلقّاها منه الناس ، فما أسمعُ بشرًا من الناس إلا يتلوها ،
قال عمر : و الله ، ما هو إلاّ أن سمعتُ أبا بكر تلاها فعُقِرت حتى ما تُقلّني رجلاي ،
و حتى أهويتُ إلى الأرض، فحين سمعته تلاها علمتُ أنَّ النبيَّ
قد مات . و في هذا فضيلةُ العلم و العُلماء ، و أنَّ العلمَ مقدّم على العواطفِ ،
و أنّ قول العالم بكتاب الله المطّلع على حقيقة الواقعة مقدّم على قول غيره .
ثم بايَع المسلمون أبا بكر رضي الله عنه بالخلافةِ بالإجماع ،
بعدَ نقاشٍ و حوار لم يدُم طويلاً ،
فرضي المسلمون ما رضيَه لهم ربهم و رضيَه رسوله
، و لم يجِدِ الشيطان سبيلاً لتفريق الكلمةِ أو تمزيق الشّمل .
لقد ردَّ أبو بكر رضي الله عنه الناسَ إلى دين الله ، و أوضَحَ لهم المنهجَ الذي دلّ عليه القرآنُ ،
وأنَّ الارتباط يجب أن يكون بالمبادئ لا بالأشخَاص ؛
لأن الأشخاصَ يموتون و من سوى الأنبياء قد يتغيرون .
و كانت وفاةُ النبيِّ 
في يومِ الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول في السنةِ الحادية عشرة من الهجرة .
و قد غُسِّل النبيُّ
و عليه ثيابُه ، فلم يُجَرّد كرامةً له ، ثم دخَل الناس يصلّون عليه أفرادًا ، ثم دُفن في موضِعِه الذي قبض فيه ليلة الأربعاء .
عن أنس رضي الله عنه قال :
لما كانَ اليومُ الذي قدِم فيه النبي
المدينةَ أضاء منها كلُّ شيء ، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلمَ منها كلّ شيء ،
و ما نفَضنا أيديَنا من الترابِ و إنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا ،
و يقول رضي الله عنه :
لما رجعنا من دفن رسول الله <IMG width=16 height=14>
قالت فاطمة : يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على وجه رسول الله .
أيها المسلمون ،
لقد تَرَك النبيُّ <IMG width=16 height=14> الدنيا و هو أكرمُ مخلوق على اللهِ ،
و لم يترك دينارًا و لا درهمًا و لا مالاً إلا بغلتَه البيضاء و سلاحَه ،
و توفي
و درعُه مرهونةٌ عند يهوديّ في شعير ، توفّي و ما شبِع ثلاثةَ أيام تِباعًا ، ذاق اليتم ، و تحملّ أعباء الرسالة ، و واجه التكذيب و الأذى و المطاردةَ
و فراق الأوطان في سبيل الله، صبَرَ و صابر ، و عفا و سامح ،
و ربَّى أمّة خالدة ، فيها الهدايةُ و الإيمان و الشريعةُ الباقية ،
تركَ أمّةً هي خير الأمم و أوسَطُها ،
ترك سيرة عطرةً لتكون منهاجا للأمة إلى يوم القيامة .
إنَّ محبّةَ النبيِّ
من أصول الإيمان ، و الشوقَ إلى لقائه من دلائلِ الإيمان ، و من أحبَّ لقاءه فليتبَع سنّتَه حتى يوافِيَه على الحوض ،
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ <IMG width=14 height=14> [آل عمران: 31]،
وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا <IMG width=14 height=14>
[النساء: 69] .
و أخيرًا ، فبالرّغم مِن عِظَم المصيبة بموتِ النبيِ
إلا أنها لم توهِن الإسلام ، و لم تُضعِفِ المسلمين ، بل انطلق الدين الحقّ يتخطّى الحدود و السدود ،
و يعلو الوِهاد ، و يطوي الأرض ، حتى بلغَ مشارقَ الأرض و مغاربها ،
و أظهَره الله على الدينِ كلّه ،
و لئن ضعُف حال المسلمين في يومٍ فإن الجولةَ الأخيرة للإسلام ، و النصرَ آتٍ لا محالة .
هذا و صلّوا و سلّموا على الهادي البشير و السراج المنير .
اللّهمّ صلِّ و سلِّم و زِد و بارك على عبدك و رسولك محمد ،
و على آلِه و صحبه أجمعين ،
اللهم ارزقنا شفاعته ،
و احشرنا في زمرتِه ،
و أورِدنا حوضَه ،
و اسقنا من يده الشريفةِ شربةً هنيئة مرئية لا نظمأ بعدها أبدا .